فتح الاقتصاد الصيني: آثار متفاوتة على الدول العربية
فرع بنغازي

تستعد الدول العربيّة لمرحلة إعادة فتح الاقتصاد الصيني، بعد أن بدأت الصين بإلغاء القيود التي فرضتها كجزء من سياسة “صفر كوفيد” في مطلع عام 2023، وحتّى اللحظة، يبدو أن آثار هذه التطوّرات ستتفاوت بين الدول العربيّة، حيث ستستفيد الدول المصدّرة مصادر الطاقة، وتلك التي ترتبط باتفاقيّات اقتصاديّة استراتيجيّة مع الصين في مجال النفط والغاز، ومنها بلدان مجلس التعاون الخليجي والعراق وليبيا، أمّا الدول المستوردة مصادر الطاقة، فقد تعاني من ارتفاع أسعار النفط والغاز، وما سيصحبه من زيادة الطلب الصيني على هذه المواد.

تداعيات سياسة “صفر كوفيد” على الاقتصاد العالمي

طوال العام 2022، تمسّكت الصين بإجراءات صارمة جدًّا لمكافحة تفشّي وباء كورونا، تحت عنوان “سياسة صفر كوفيد”. وكجزء من هذه السياسة، استمرّت الصين بفرض عمليّات إغلاق شاملة في أجزاء واسعة من البلاد، بحسب درجة تفشّي الوباء فيها، كما حافظت على القيود المفروضة على الأنشطة الإنتاجيّة والسياحيّة وتنقلات الأفراد، وبذلك، خالفت الصين السياسات التي اتبعتها الغالبيّة الساحقة من الدول الأخرى، التي بدأت منذ العام 2021 بتخفيف القيود المفروضة على قطاعاتها الاقتصاديّة بشكل متدرّج.

دفع الاقتصاد الصيني أثمانًا باهظة لسياسة “صفر كوفيد”، إذ تشير دراسات مصرف غولدمان ساكس إلى أنّ المدن التي تأثّرت بعمليّات الإغلاق الشامل خلال العام 2022 تمثّل %35 من الناتج المحلّي الصيني، وفي النتيجة، تراجع النمو الاقتصادي خلال العام 2022 إلى أدنى مستوياته منذ قرابة نصف قرن، ليسجّل نسبة صفر بالمئة خلال الربع الأخير من العام 2022. أمّا بالنسبة إلى العام 2022 ككل، فاقتصرت نسبة نمو الناتج المحلّي على %3 فقط، متراجعةً بشدّة عن نسبة النمو التي حققتها الصين في العام السابق، والتي تجاوزت ال%8.4  ، وبما أن الصين تمثّل ثاني أكبر تكتّل اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة، فقد ساهمت كل هذه التطوّرات بالمزيد من التباطؤ في نمو الاقتصاد العالمي، إلى جانب أسباب أخرى كالحرب الأوكرانيّة وتباطؤ النمو في الولايات المتحدة. وفي النتيجة، اقتصرت نسبة نمو الاقتصاد العالمي على نحو %3.2خلال العام 2022، بحسب أرقام صندوق النقد الدولي، بتراجع كبير عن نسبة النمو خلال العام السابق، والتي قاربت ال 6%.

أهميّة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مبادرة الحزام والطريق

لا يحتاج المرء لكثير من التحليل لفهم أهميّة منطقة الشرق الأوسط في إطار هذه الاستراتيجيّة الصينيّة، فالصين باقتصادها الضخم والمنتج تمثّل اليوم أكبر مستورد لمصادر الطاقة في العالم، فيما يأتي نصف نفطها المستورد من المنطقة العربيّة بالتحديد، وفي ظل التوتّرات التي خيّمت طوال السنوات الماضية على أسواق النفط العالميّة، بات انفتاح الصين على منطقة الشرق الأوسط، ومحاولة تعزيز النفوذ الصيني هناك، ضرورة استراتيجيّة في حسابات أمن الطاقة الصيني، والذي يتصل بدوره بإنتاجيّة القطاعات الصناعيّة الصينيّة.

ومن المعلوم أيضًا أن منطقة الشرق الأوسط تحتل موقعًا جغرافيًّا استراتيجيًّا، كنقطة وصل ما بين أسواق شرق أسيا من جهة، وأفريقيا وأوروبا وحوض البحر المتوسّط من جهة أخرى. وبما أن استراتيجيّة الحزام والطريق ترتكز أساسًا على الاستثمار في خطوط النقل التجاريّة والبنية التحتيّة المسهّلة للتجارة الدوليّة، فمن الطبيعي أن يكون الشرق الأوسط حلقة وصل استراتيجيّة في هذه المبادرة.

لا بل تشير التحليلات الاستراتيجيّة اليوم إلى أنّ نجاح الصين في توسيع نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، وربطه بخطوط إمدادها التجاريّة في أفريقيا وأوروبا وشرق أسيا، بات النقطة التي يعتمد عليها نجاح مشروع مبادرة الحزام والطريق. ففشل الصين في تعزيز حضورها في هذه النقطة الجغرافيّة بالتحديد، سيعني الفشل في استكمال شبكة خطوط الإمداد التي تراهن الصين على تكاملها بين القارّات الثلاث.

من هنا، يمكن فهم توسّع نطاق الاستثمارات الصينيّة في منطقة الشرق الأوسط والدول العربيّة، خلال العام 2021. فخلال العام الماضي، ارتفعت حصّة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من استثمارات مبادرة الحزام والطريق من 8% إلى 38%، في إشارة واضحة إلى الاهتمام الذي تعطيه الصين اليوم لهذه المنطقة.

ولهذا السبب بالتحديد، ارتفعت قيمة الاستثمارات الصينيّة في المنطقة العربيّة والشرق الأوسط بنسبة 360% خلال العام الماضي وحده، فيما ارتفعت قيمة الاستثمارات الصينيّة في قطاع البناء في هذه المنطقة بنسبة 116%. وبذلك، باتت قيمة الاستثمارات الصينيّة في المنطقة العربيّة وحدها تتجاوز حدود ال213.9 مليار دولار في نهاية العام 2021.

باختصار، كل ما سبق عرضه من أرقام يشير إلى أن الصين أدركت مؤخّرًا أهميّة منطقة الشرق الأوسط ضمن إطار خططها الاقتصاديّة على المستوى الدولي، وهو ما انعكس في طفرة الاستثمارات في المنطقة خلال العام الماضي.

مع الإشارة إلى أنّ الصين عمدت إلى مواءمة مبادرة الحزام والطريق مع الخطط الاقتصاديّة التي قامت بها كل دولة من دول المنطقة على حدة، كرؤية مصر 2030 ورؤية الأردن 2025 ومشروع مدينة الحرير الكويتي، ومشروع مدينة محمد السادس الذكيّة في طنجة المغربيّة. وهذه الخطوة بالتحديد، سمحت بتلفف المشاريع الصينيّة بترحاب أكبر على المستوى المحلّي، نظرًا لتكاملها مع التوجهات الاقتصاديّة المحليّة والأهداف الخطط التي وضعتها كل من هذه الحكومات.

تفاؤل اقتصادي بمرحلة إعادة فتح الاقتصاد الصيني

اليوم، بدأت الصين بالاستعداد لإعادة فتح اقتصادها من جديد، بعدما دخلت منذ بداية العام2023 في مرحلة رفع القيود المتدرجة التي فرضتها سياسة “صفر كوفيد”، ومن الواضح أن قرار الصين المستجد اتصل بشكل وثيق بالضغوط القاسية التي تعرّض لها الاقتصاد الصيني العام 2022، نتيجة سياسة “صفر كوفيد”، والتي وصلت إلى مستويات حرجة وغير مسبوقة، كما اتصل هذا القرار بالاحتجاجات العماليّة والشعبيّة الصاخبة، التي نددت باستمرار القيود المشددة على التنقلات والنشاط الإنتاجي في البلاد.

على المستوى الصحّي، صحبت خطوة إعادة فتح الاقتصاد الصيني بعض المخاوف، وخصوصًا لجهة المتحوّرات الجديدة التي يمكن أن تظهر، جرّاء تفشّي الوباء بسرعة من جديد. لكن على المستوى الاقتصادي، عبّر معظم المحللين الاقتصاديّين عن تفاؤلهم بهذه المستجدات، التي ستعزّز برأيهم آفاق نمو الاقتصاد العالمي خلال عام 2023.

فبحسب وكالة بلومبيرغ، يتوقّع الاقتصاديّون في استطلاعات الرأي أن ترتفع نسبة النمو الاقتصادي في الصين هذه السنة إلى حدود ال 5%، بعد إعادة فتح الاقتصاد في البلاد. وبما أنّ الصين تستحوذ على %18.5 من الاقتصاد العالمي، وكونها ساهمت ب3 % من نمو الاقتصاد العالمي منذ العام 2013، من المتوقّع أن تضفي كل هذه المستجدات على الحركة التجاريّة الدوليّة زخمًا إيجابيًّا.

أمّا أهم ما يتوقّعه الاقتصاديون اليوم، فهو أنّ حجم الطلب الصيني على المواد الأوليّة ومصادر الطاقة سيرتفع بشكل حاد، بالتوازي مع ارتفاع حجم النشاط الاقتصادي في الصين. ولهذا السبب بالتحديد، شهدت الأسابيع الأولى من هذا العام ارتفاعًا ملحوظًا في أسعار مصادر الطاقة، نتيجة التفاؤل بإعادة فتح الاقتصاد الصيني.

استفادة الدول العربيّة المصدّرة النفط

كما هو معلوم، تلتزم غالبيّة الدول المصدّرة النفط بسقف محدّد للإنتاج اليومي، وفقًا للتفاهمات التي تجري حاليًّا من خلال تحالف “أوبيك+”، الذي يهيمن اليوم على تجارة النفط العالميّة.

وخلال شهر أكتوبر/ 2022، قرّر أعضاء هذا التحالف خفض إنتاج النفط اليومي بمعدّل مليوني برميل يوميًّا، لغاية نهاية العام. أمّا الهدف من هذا القرار، فكان الحؤول دون انخفاض سعر برميل النفط على المدى المتوسّط، هذا ما أثار حفيظة الولايات المتحدة الأميركيّة وسائر الدول الصناعيّة المستوردة النفط.

بحسب رئيس شركة أرامكو أمين الناصر، من المتوقّع أن يؤدّي فتح الاقتصاد الصيني من جديد إلى زيادة الطلب العالمي على النفط، إلى حد استنزاف سقف الإنتاج الذي توافقت عليه دول تحالف “أوبيك+” بشكل كامل. ومع تجاوز طلب حجم العرض المتاح، ستعود أسعار النفط العالميّة إلى تسجيل ارتفاعات سريعة. وعند حصول هذا السيناريو، يشير الناصر إلى أنّ المملكة العربيّة السعوديّة “لن تكون مسؤولة” عن توفير حاجة السوق الإضافيّة من النفط، في إشارة إلى رفض بلاده زيادة إنتاجها النفطي على المدى المتوسّط.

لكل هذه الأسباب، ستكون الدول العربيّة المصدّرة النفط، وفي طليعتها المملكة العربيّة السعوديّة والعراق وليبيا والكويت والبحرين، على موعد مع فوائض ماليّة إضافيّة، في حال أدّت زيادة الطلب الصيني على مصادر الطاقة إلى ارتفاعات جديدة في سعر برميل النفط.

مع الإشارة إلى أنّ هذه الدول تمكنت أساسًا من مضاعفة مردودها من عمليّات بيع النفط، بعدما ارتفع متوسّط سعر البرميل السنوي من 41.96 دولارًا خلال العام 2020، إلى 70.68 دولارًا خلال العام 2021، وصولًا إلى 103.71 دولارًا خلال العام .2022

وفي جميع الحالات، من الواضح أن الموقف السعودي الرافض زيادة إنتاج النفط، حتّى في حال ارتفع الطلب الصيني، يعكس ترقبًا لحجم العوائد التي يمكن أن تحققها المملكة، بمجرّد ارتفاع سعر برميل النفط.

وتجدر الإشارة إلى أنّ أسواق الطاقة العالميّة تملك أساسًا عوامل أخرى تضغط باتجاه زيادة أسعار النفط العالميّة خلال العام 2023، مثل العقوبات الغربيّة المفروضة على روسيا، التي قد تخلق بعض الاختلالات في سلاسل التوريد، وتضخّم الأسعار الذي يطال مختلف السلع الأساسيّة.

تداعيات على الدول المستوردة مصادر الطاقة

في المقابل، قد تعاني الدول العربيّة المستوردة مصادر الطاقة خلال هذا العام، بسبب الارتفاع المحتمل في أسعار النفط والغاز، بعد إعادة فتح الاقتصاد الصيني.

مع الإشارة إلى أن الكثير من هذه الدول، كحال لبنان وسوريا والسودان وتونس، تعاني أساسًا من تداعيات تضخّم الأسعار الذي تشهده الأسواق العالميّة من بداية العام 2022، وما نتج عنه من زيادة في كلفة الاستيراد، ولهذه الأسباب، سيؤدّي ارتفاع كلفة استيراد مصادر الطاقة إلى زيادة الطلب على العملة الصعبة، ما سينعكس بدوره على المزيد من الضغط على العملات المحليّة في هذه البلدان، هكذا ستتنوّع آثار إعادة فتح الاقتصاد الصيني بين الدول العربيّة، وفقًا لعلاقة هذه الدول بأسواق الطاقة. لكن في الوقت نفسه، ستعتمد سرعة تأثّر الدول العربيّة بهذه التطورات على وتيرة تعافي الاقتصاد الصيني، وحجم الارتفاع في إنتاجيّته خلال العام الراهن، كما ستختلف السيناريوهات بحسب كيفيّة تدرّج السلطات الصينيّة في رفع القيود، التي تم فرضها ضمن سياسة “صفر كوفيد”، وحجم القيود التي ستظل تفرضها السلطات حتّى نهاية عام 2023، أما المتغيّر الأهم، فهو تطوّرات الوضع الصحّي، الذي من شأنه أن يعيد فرض بعض القيود في حال ظهور طفرات جديدة للوباء، أو في حال تجاوز عدد الإصابات الجديدة قدرة القطاع الصحّي الصيني على استيعاب حالات الاستشفاء.




المراجع:

(ب ، ن ) ،  10.3.2022 ، الصين: توسّع النفوذ الصامت في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، موقع وقائع الشرق الأوسط وشمال افريقيا.

(ب ، ن) ، 5.1.2023 ، مقالة خاصة: الاقتصاد الصيني يتحضر لتسجيل تعافٍ ثابت في عام 2023، موقع ARABIC.NEW.CN.

المقالات الأخيرة