كشفت
فرنسا مؤخراً عن خطط لإعادة صياغة حضورها في القارة الأفريقية؛ حيث ذكر الرئيس
الفرنسي "ماكرون"، في لقاء مع السفراء الفرنسيين، في 6 يناير 2025، أن
"فرنسا لا تتراجع في أفريقيا، بل تعمل على إعادة تنظيم نفسها فحسب". هذه
التحركات جاءت في ظل ما تشهده صلات فرنسا بالقارة الأفريقية من تباعد تدريجي،
وخاصةً على الصعيد العسكري والأمني خلال السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ عام 2020.
ويرتبط ذلك بانتهاء الوجود العسكري الفرنسي في إطار إقليم غرب أفريقيا، ولعل آخر
مظاهر ذلك إعلان الرئيس الإيفواري "الحسن واتارا"، في 31 ديسمبر 2024،
انسحاب القوات الفرنسية من البلاد بحلول يناير 2025، وقبل ذلك أكد رئيس تشاد
"محمد إدريس ديبي" مغادرة القوات الفرنسية البلاد في مطلع ديسمبر 2024.
وقد تزامن ذلك مع إعلان الرئيس السنغالي "باسيرو ديوماي فاي" أن جميع
القوات الأجنبية ستغادر البلاد اعتباراً من عام 2025. وسبق ذلك خروج فرنسا من ثلاث
دول من الإقليم: (مالي، وبوركينافاسو، والنيجر) بشكل متتالٍ نتيجةً لتغير توجهات
الأنظمة العسكرية الانتقالية، التي حملت توجهات معادية للوجود العسكري الفرنسي
التقليدي. وفي ضوء ما سبق، باتت فرنسا أمام معضلة متصاعدة تتعلق بمسألة إعادة
صياغة حضورها العسكري في القارة الأفريقية.
سياقات
حاكمة
ثمة
جملة من السياقات الحاكمة المتعلقة بتوجه فرنسا نحو إعادة تشكيل وجودها العسكري في
القارة الأفريقية خلال الفترة الأخيرة، وتتمثل هذه السياقات فيما يلي:
1–
إعلان ساحل العاج مغادرة القوات الفرنسية من البلاد: تجلى ذلك من خلال إعلان
الرئيس الإيفواري "الحسن واتارا" في 31 ديسمبر 2024 انسحاب القوات
الفرنسية من البلاد بحلول يناير 2025؛ حيث أكد اتخاذ بلاده قراراً بشأن الانسحاب
المنسق والمنظم للقوات الفرنسية؛ وذلك في ضوء ما يشهده الجيش الوطني من تطوير
فعال؛ إذ أشار إلى مغادرة الكتيبة (43) من مشاة البحرية الموجودة في مدينة
"بورت بويه". وعلى الرغم مما سبق، فإن فرنسا لم تعلم من جانبها أي خطط
تتعلق بالانسحاب والمدى الزمني اللازم لذلك؛ علماً بأن لدى فرنسا نحو (900) جندي
بعد إنشاء القاعدة العسكرية في البلاد في عام 2015. والجدير بالذكر أن الجنود
الفرنسيين كانوا يساعدون الجيش الإيفواري في القتال ضد الجماعات المسلحة العاملة
في منطقة الساحل وعلى طول خليج غينيا، كما عملت فرنسا كجزء من مهمة حفظ السلام
التابعة للأمم المتحدة في كوت ديفوار خلال الحربين الأهليتين الأولى والثانية في
الفترتين (2002–2007) و(2010–2011).
2–
تأكيد تشاد مغادرة القوات الفرنسية أراضيها: تجلى ذلك من خلال إعلان الرئيس
التشادي "محمد إدريس ديبي"، في خطاب ألقاه في 1 ديسمبر 2024، أن اتفاقية
الدفاع المشتركة مع فرنسا لم تعد متوافقة مع الاحتياجات الأمنية أو الجيوسياسية
للبلاد؛ حيث أشار إلى أن هذه الاتفاقية تم توقيعها في عصر وسياق مختلفَين تماماً،
ومن ثم فإنها أصبحت قديمة ولا تلائم معطيات الواقع الراهن، كما أكد في هذا السياق
تحرك تشاد نحو بناء جيش وطني أكثر استقلاليةً. والجدير بالذكر أن قاعدة فرنسا في
تشاد تعمل كمركز لشبكتها اللوجستية في أفريقيا بحكم موقع تشاد في وسط أفريقيا، كما
تعمل كمركز لدعم عمليات النشر العسكري لها في إقليم غرب أفريقيا، وتحديداً في كوت
ديفوار والجابون والسنغال، كما تستخدم فرنسا وجودها العسكري في تشاد لدعم الجهود
الرامية إلى معالجة الحرب الأهلية في السودان؛ علماً بأن لدى فرنسا نحو ألف جندي
متمركزين في تشاد.
3–
تحركات السنغال لإنهاء الوجود العسكري الفرنسي: تبلور ذلك من خلال إعلان السنغال
لأول مرة عن نيتها طرد القوات الفرنسية في 28 نوفمبر 2024؛ حيث أعلن الرئيس
السنغالي "باسيرو ديوماي فاي" أن بلاده ستطلب من فرنسا إغلاق جميع
القواعد العسكرية على أراضيها؛ لأنها غير متوافقة مع السيادة السنغالية. وقد أعقب
ذلك إعلان الرئيس السنغالي في أواخر ديسمبر 2024 أن جميع القوات الأجنبية ستغادر
البلاد اعتباراً من عام 2025؛ حيث أكد وجيهه وزير القوات المسلحة باقتراح عقيدة
جديدة للتعاون في الدفاع والأمن. وعلى الرغم مما سبق فإن فرنسا لم تفصح عن خططها
لسحب قواتها من السنغال؛ علماً بأن الوجود العسكري الفرنسي في السنغال يعود إلى
عام 2011، ويبلغ القوام العددي لقواتها هناك نحو (350) جندياً.
4–
انتهاء الوجود الفرنسي في مالي وبوركينا فاسو والنيجر: ارتبط ذلك في الأساس بتنامي
موجات الغضب والاستياء ضد فرنسا، سواء على المستويات الرسمية من قِبل الأنظمة
العسكرية الانتقالية، أو غير الرسمية "الشعبية" بفعل مساهماتها غير
الفعالة في مكافحة الإرهاب؛ ففي حالة مالي أنهت فرنسا وجودها العسكري بشكل تام عبر
إخراج قواتها المشارِكة في إطار عملية "برخان" بشكل نهائي في أغسطس
2022؛ وذلك بناءً على خطة الانسحاب التي أعلنها الرئيس الفرنسي "ماكرون"
في فبراير من العام ذاته. وقد كان لفرنسا نحو (2400) عنصر عسكري في مالي مع بداية
الانسحاب.
والأمر
ذاته تكرر في حالة بوركينا فاسو؛ إذ أتمت فرنسا انسحابها بإلغاء عملياتها العسكرية
"سابر" في فبراير 2023؛ علماً بأنه قد كان لديها قاعدة عسكرية وكتيبة
مكونة من نحو (400) جندي من القوات الخاصة، وقد جاء هذا الانسحاب تنفيذاً لقرار
السلطات الانتقالية بشأن إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا الموقعة في عام
2018؛ حيث طالبت حكومة بوركينا فاسو بشكل رسمي القوات الفرنسية الموجودة على
أراضيها بمغادرة البلاد في غضون شهر في يناير2023.
وقد
تزامن هذا القرار مع تصاعد التظاهرات المطالبة برحيل الجنود الفرنسيين المتمركزين
في شمال شرق العاصمة "واجادوجو"؛ إذ اتهم المتظاهرون فرنسا بعدم القيام
بما يكفي لمساعدة بوركينا فاسو في مواجهة الهجمات الإرهابية. وكذلك قامت فرنسا
بإنهاء وجودها العسكري بشكل تام في النيجر في 22 ديسمبر2023؛ وذلك عقب خروج القوات
الفرنسية البالغ عددها نحو (1500) جندي. ويأتي هذا القرار في ظل تمسك المجلس
العسكري الانتقالي في النيجر بقيادة "عبد الرحمن تياني" بالانسحاب
العسكري الفرنسي من النيجر؛ وذلك على خلفية تباعد المواقف بين الطرفين بفعل موقف
فرنسا القائم على إدانة الانقلاب العسكري الواقع في 26 يوليو 2023 والمطالبة بعودة
النظام الدستوري في الدولة ممثلاً في الرئيس النيجري السابق "محمد
بازوم" عبر دعم خيار التدخل العسكري الذي كان مطروحاً من قِبل تجمع
"إيكواس".
مؤشرات
دالة
ثمة
جملة من المؤشرات الدالة على تحرك فرنسا نحو إعادة تشكيل حضورها العسكري في
أفريقيا خلال الفترات المقبلة. وتتمثل هذه المؤشرات فيما يلي:
1–
إعلان فرنسا تبني استراتيجية عسكرية جديدة تجاه أفريقيا: وهي الإستراتيجية التي تم
الإفصاح عنها في يونيو 2023، والتي أكدت استمرار الدعم العسكري الفرنسي المقدم
للدول الأفريقية وفقاً لمبادئ جديدة يتم تحديدها بالتنسيق مع هذه الدول، كما أشارت
إلى أن الإستراتيجية المستقبلية لفرنسا في القارة ستُبنى على شراكات عسكرية أوثق
وأعمق مع القوات الأفريقية. وتستهدف هذه الاستراتيجية تطوير نموذج جديد للتعاون
العسكري قائم على تحويل القواعد العسكرية إلى أكاديميات، أو التحرك نحو إدارة هذه
القواعد بشكل مشترك مع الدول الأفريقية الشريكة.
2–
إنشاء القيادة الفرنسية الجديدة لأفريقيا (CPA): تم
إنشاؤها في يونيو 2024 على غرار القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا
"أفريكوم"، التي تم إنشاؤها في عام 2008. وتهدف هذه القيادة الجديدة إلى
إعادة تنظيم الوجود الفرنسي في القارة، والحفاظ على المواقع العسكرية الفرنسية في
غرب ووسط أفريقيا، وبناء شراكات أمنية عميقة خارج مجالات النفوذ التقليدية لفرنسا،
ولا سيما مع الدول الناطقة باللغة الإنجليزية. وكذلك تسعى هذه القيادة إلى
الاضطلاع ببعض المهام، من بينها الحفاظ على العلاقات مع السلطات العسكرية المحلية،
وجمع المعلومات الاستخباراتية، ومتابعة الشراكات العملياتية، فضلاً عن توفير
التدريب والقدرات للدول الشريكة بناءً على طلبها. وقد تم تعيين المتحدث السابق
باسم هيئة الأركان العامة الفرنسية "باسكال ياني" لتولي مسؤولية هذه
القيادة اعتباراً من 1 أغسطس 2024، ومن المقرر أن تعمل بكامل طاقتها خلال عام
2025.
3–
تخفيض القوات الفرنسية في إطار إقليمَي الوسط والغرب الأفريقيَّين: تبلور هذا
التوجه من خلال تكليف المبعوث الرئاسي الفرنسي إلى أفريقيا "جان ماري
بوكيل" من قِبل الرئيس الفرنسي "إيمونيل ماكرون" في عام 2023
بالتشاور مع الحكومات التي تستضيف قواعد عسكرية فرنسية دائمة من أجل تخفيض قوام
القوات الفرنسية الموجودة في أفريقيا. ويأتي هذا التحرك بما يتماشى مع المبادئ
التوجيهية التي وضعتها فرنسا في هذا الشأن، فبراير 2023. ومن المزمع وفقاً
لتقديرات فرنسا تقليص وجودها العسكري من نحو (2300) عنصر إلى (600) عنصر؛ بحيث
يكون لديها نحو (100) عنصر في الجابون بدلاً من (350) عنصراً، ونحو (100) عنصر في
السنغال بدلاً من (350) عنصراً، ونحو (100) عنصر في كوت ديفوار بدلاً من (600)
عنصر، ونحو (300) عنصر بدلاً من نحو (1000) عنصر في تشاد، مع الأخذ في الاعتبار
وجود احتمالية لتوسيع هذا الوجود العسكري بشكل دوري بناءً على احتياجات الدول
الأفريقية الشريكة. وقد يتضمن ذلك تقديم تدريبات في مراقبة المجال الجوي أو
الطائرات بدون طيار، كما يمكن لفرنسا نشر قوات على أساس مؤقت؛ وذلك وفقاً لما ذكره
المبعوث الرئاسي الفرنسي إلى أفريقيا في نوفمبر 2024.
4–
الاحتفاظ بالوجود العسكري في جيبوتي والجابون: يدعم ذلك ما أكده المبعوث الرئاسي
الفرنسي إلى أفريقيا من خلال تقرير قدمه إلى الرئيس الفرنسي "ماكرون"
حول تطور الوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا في نوفمبر 2024، وهو التقرير الذي
أشار من خلاله إلى استثناء جيبوتي من القاعدة العامة للخفض الحاد للقوات الفرنسية
في جميع قواعدها العسكرية، وهو ما يعكس حرص الإدارة الفرنسية على الإبقاء على
وجودها في منطقة المدخل الجنوبي للبحر الأحمر من خلال قاعدتها العسكرية الكائنة في
جيبوتي. وتعد القوات الفرنسية في جيبوتي بمنزلة أكبر الوحدات العسكرية الدائمة
لفرنسا في أفريقيا؛ حيث يبلغ عدد العناصر بها نحو (1500) عنصر، وقد تم التوقيع على
اتفاقية للتعاون الأمني بين الطرفين في ديسمبر 2011 التي دخلت حيز النفاذ في 1
مايو 2014. وأعادت البنود الأمنية لهذه الاتفاقية تأكيد التزام فرنسا بالحفاظ على
الاستقلال والتكامل الإقليمي لجيبوتي، كما تطرقت إلى التسهيلات العسكرية
العملياتية المُخصصة للقوات الفرنسية الكائنة في جيبوتي.
والجدير
بالذكر أن القوات الفرنسية تنتشر في عدة مواقع، تشمل مطار
"جيبوتي–أمبولي" الدولي ومطار "شابيلاي" الواقع خارج العاصمة،
فضلاً عن القاعدة البحرية التي تعلب دوراً لوجستياً هاماً للأسطول الفرنسي وأساطيل
الدول الحليفة لها في الإقليم، كما تعد هامة على المستوى الاستراتيجي لدعم القدرة
الفرنسية بشأن إرسال غواصات الهجوم النووي إلى المحيط الهندي، كما تشمل هذه
القاعدة طائرات الهليكوبتر ومجموعة طائرات ميراج المُقاتلة، بالإضافة إلى المعدات
الثقيلة لدعم وحدات المشاة. ويكمن الهدف من هذه القاعدة في استخدامها أو توظيفها
للتعامل مع الأزمات في منطقة القرن الأفريقي والمحيط الهندي ومنطقة الشرق الأوسط
عند الضرورة، وتقديم الحماية للمواطنين الفرنسيين في إطار مناطق الاختصاص المحددة
لها، فضلاً عن دعم دور الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في حلف الناتو في منطقة
القرن الأفريقي وحماية السفن البحرية.
وكذلك
الحال بالنسبة إلى الجابون؛ إذ تسعى فرنسا إلى الحفاظ على وجودها العسكري الذي
يعود تاريخه إلى استقلال البلاد في عام 1960؛ حيث تأسست الصلات العسكرية المشتركة
بموجب اتفاقيات دفاعية تم توقيعها في العام نفسه. وتستضيف الجابون نحو (350)
جندياً فرنسياً على أراضيها، مع مراعاة أن هذا الوجود يواجه العديد من التحديات
بفعل الدعوات المتزايدة من قبل الرأي العام للحد من النفوذ الأجنبي، وعلى رأسه
النفوذ الفرنسي، ويعزز ذلك ما شهدته البلاد من تحولات سياسية جذرية منذ الانقلاب
العسكري الذي جرى ضد الرئيس السابق "علي بونجو" في أغسطس 2023.
5–
فتح خطوط اتصال عسكرية مع الدول الناطقة باللغة الإنجليزية: يأتي على رأس هذه
الدول كل من غانا ونيجيريا؛ فعلى الرغم من أن فرنسا لديها بالفعل بعثات دفاعية في
عاصمة الدولتين "أكرا" و"أبوجا"، فإن القيادة العسكرية
الفرنسية تخطط لإرسال وحدات عسكرية بغية تعزيز العلاقات الأمنية بين
"باريس" وكلتا الدولتين، من خلال عقد التدريبات وتنظيم المناورات
العسكرية المشتركة مع الجيوش الوطنية. وتستهدف فرنسا من ذلك الاستفادة من هذا
الوجود كنواة لدعم المصالح الفرنسية في حالة حدوث أزمة كبرى في القارة الأفريقية؛
وذلك على غرار القوات الفرنسية الأخرى الموجودة مسبقاً في أفريقيا الناطقة
بالفرنسية.
وختاماً، يمكن القول إن الوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا يمر بمرحلة من التحولات الراديكالية على مستوى الشكل والمضمون على كافة المستويات، ويرتبط ذلك بانتهاء هذا الوجود فعلياً في العديد من دول منطقة الساحل الأفريقي ذات الأنظمة العسكرية الانتقالية، وتحديداً مالي وبوركينا فاسو والنيجر من جانب، واتجاه بعض الدول الأفريقية الفرانكفونية، وتحديداً كوت ديفوار والسنغال وتشاد، إلى اتخاذ قرارات بإنهاء الوجود الفرنسي بحلول عام 2025 من جانب آخر؛ لذا تطرح الرؤية المستقبلية محاولة فرنسا تدارك الأمور عبر صياغة هوية مغايرة لوجودها العسكري في أفريقيا بما يتلاءم مع هذه المعطيات الجديدة؛ وذلك على نحو يضمن الحفاظ على استمرارية قدرتها على تحقيق منظومة الأهداف والمصالح الوطنية لها.
المراجع:
د.
محمود زكريا، 14.1.2025، كيف تعيد
فرنسا تشكيل حضورها العسكري في أفريقيا؟،إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية.
ميشال
أبونجم ،14.7.2022، فرنسا تعيد
النظر باستراتيجية حضورها في أفريقيا بعد خروجها العسكري من مالي، موقع صحيفة
الشرق الأوسط.