اكتسبت القارة الأفريقية ودولها المختلفة اهتماماً خاصاً من جانب القوى الدولية في أعقاب اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، حيث بدا أن القوى الدولية سعت إلى نقل جزء من صراعها للسيطرة على النظام الدولي إلى القارة الأفريقية، ففضلاً عن محاولات هذه القوى تعويض الخسائر من جراء الحرب الروسية-الأوكرانية والعقوبات المفروضة على روسيا، وخاصة ما يتعلق بالجوانب الاقتصادية، فقد نظرت هذه القوى إلى التقارب مع دول القارة باعتباره إحدى أدوات الانتصار في هذا الصراع.
ومع ذلك، ربما تكون أفريقيا بصدد إعادة تشكيل وصياغة دورها على المستوى الدولي خلال المرحلة المقبلة في ضوء تنامي الاهتمام الدولي بالحصول على الثروات النفطية الأفريقية، مما قد يعزز نفوذ القارة في النظام الدولي مستقبلاً.
أبرز التحولات الاستراتيجية التي طرأت على القارة الأفريقية بعد مرور عام على اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية كانت على النحو التالي:
ـ أفريقيا هي الأكثر تأثراً بالحرب
هناك إدراك لدى قطاع من الأفارقة بأن الحرب في شرق أوروبا ستشعر بها كل قرية وبلدة في الدول الأفريقية، دلالة على تأثرها بتداعيات الحرب المستمرة على مدار العام، وهي التي لم تتجاوز بعد الآثار الاقتصادية لجائحة كوفيد-19.
إذ يشكل الصراع الروسي-الأوكراني تهديداً رئيسياً للاقتصاد العالمي بما في ذلك الاقتصادات الأفريقية، فقد ارتفعت أسعار القمح العالمي والزيوت والنفط الخام إلى مستويات غير مسبوقة عقب اندلاع الحرب في فبراير 2022، في الوقت الذي تعتمد فيه أفريقيا بشكل كبير على الواردات الغذائية من روسيا وأوكرانيا، حيث تعتمد على الأولى في الحصول على 30% من إمداداتها من الحبوب. فيما تعتمد أفريقيا على الواردات لتغطية 63% من احتياجاتها من القمح، ويتوقع أن تزداد هذه النسبة مع نمو سكان أفريقيا خلال السنوات المقبلة. كما يرجح أن يصل استهلاك القمح في أفريقيا إلى 5.76 مليون طن بحلول عام 2025، على أن يتم استيراد نحو 3.48 مليون طن من خارج القارة.
ـ تعزيز القيمة الاستراتيجية للقارة الأفريقية
برزت بشكل واضح في مسارعة القوى الدولية لتشكيل تحالفات واسعة مع الدول الأفريقية بهدف ضمان ولاء الكتلة التصويتية الأفريقية في الأمم المتحدة والتي تتجاوز 25% من إجمالي الدول الأعضاء في الجمعية العامة بها، وهو ما يمنح الدول الأفريقية ثقلاً سياسياً دفع روسيا والدول الغربية لمحاولة استقطابها من أجل الاصطفاف وراء أي من المعسكرين.
كما برزت قارة أفريقيا باعتبارها ساحة استراتيجية للتنافس الدولي بين القوى الكبرى الفاعلة بهدف كسب المزيد من النفوذ السياسي والاقتصادي والأمني هناك، كما أنها تمثل المسرح الجيوسياسية الواسع الذي يسهم في تخفيف حدة العزلة الدولية التي تتعرض لها بعض القوى مثل موسكو التي تعرضت للعقوبات الدولية الغربية مؤخراً، وهو ما يعد إضافة للأهمية الاستراتيجية التي تتمتع بها القارة الأفريقية على المستوى الدولي.
ـ أفريقيا ساحة للصراع بالوكالة
أضحت القارة جزءاً من الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة والغرب من جهة، وروسيا والصين من جهة ثانية. فقد انتقل التنافس الأمريكي-الروسي من شرق أوروبا إلى الأراضي الأفريقية، وهو ما ظهر في محاولة استقطاب الرأي العام الأفريقي لصالح كل طرف في مقابل شيطنة الطرف الآخر، على نحو عززته واشنطن بإطلاق الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في أغسطس 2022، وتواجهه موسكو من خلال توسيع دائرة تحالفاتها مع الدول الأفريقية وخاصة منطقة الساحل وغرب أفريقيا، إلى جانب انتشار قوات روسية أمنية في عدد من الدول الأفريقية لتعزيز النفوذ الروسي، ومزاحمة النفوذ الأمريكي والغربيس في بعض المناطق الاستراتيجية مثل الساحل.
ـ أفريقيا مسرح للمواجهات الدبلوماسية بين القوى الكبرى
أثرت الحرب على العلاقات السياسية بين الدول الأفريقية وكل من روسيا والدول الغربية. فقد دفع التوتر مع الأخيرة موسكو إلى التوجه نحو أفريقيا من أجل استعادة نفوذها العالمي والهروب من العزلة الدولية المفروضة عليها عبر تعزيز الدعم السياسي واستغلال أسواق جديدة. بينما استهدفت الدول الغربية مواجهة النفوذ الروسي الذي وصفه بـ "الخبيث" في أفريقيا وخلق قوة دفع جديدة لكسب دعم أفريقيا.
تبارى الطرفان في المسارعة نحو أفريقيا لضمان حشد أفريقي مؤيد لهما، بدءاً من الجولات الأفريقية لكبار المسئولين الغربيين والأمريكيين والروس وصولاً إلى عقد القمم مع الأفارقة، في محاولة لتغيير المزاج الأفريقي الرسمي والشعبي تجاه الحرب الروسية لصالح أي من الطرفين واستقطاب الأصوات المؤيدة في المحافل الدولية.
فقد أجرى سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي ثلاث جولات أفريقية منذ اندلاع الحرب في يوليو 2022 ويناير 2023 وفبراير 2023 والتي شملت دول مصر والكونغو وأوغندا وإثيوبيا وإريتريا وأنجولا وجنوب أفريقيا ومملكة سواتيني والسودان ومالي وموريتانيا. في حين زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أفريقيا في يوليو 2022 والتي شملت دول الكاميرون وبنين وغينيا بيساو والجزائر. وأعقبها زيارة أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي، في أغسطس 2022، إلى دول جنوب أفريقيا والكونغو الديمقراطية ورواندا، وذلك قبل أشهر قليلة من انطلاق القمة الأمريكية-الأفريقية التي استضافتها واشنطن في ديسمبر 2022بمشاركة نحو 49 دولة أفريقية لبحث الشراكات والقضايا المشتركة بين الطرفين. إضافة إلى جولة وزير الخارجية الصيني تشين جانغ في القارة في يناير 2023 والتي شملت دول مصر وإثيوبيا وأنجولا والجابون وبنين.
ـ الضغوط الدولية من أجل الاصطفاف الأفريقي
شملت جولات بعض المسئولين الغربيين للقارة مزيجاً من الضغوط والمحفزات في سبيل خلق حالة من الاصطفاف الإقليمي للحكومات الأفريقية وراء كل طرف بهدف تعزيز موقفه في ساحة الأمم المتحدة، وكذلك أمام الرأي العام العالمي، وهو ما برز في زيارة وزير خارجية أوكرانيا لأفريقيا والأولى من نوعها في أكتوبر 2022 والتي شملت دول السنغال وكوت ديفوار وغانا وكينيا، حيث لمح لإمكانية توريد المزيد من الحبوب والقمح إلى الدول الأفريقية في محاولة لاستمالتها.
ـ الاستفادة الأفريقية من الحرب
احتدم التنافس الدولي على أفريقيا بشكل أوسع منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية خاصة بين الدول الغربية وروسيا، مما دفع الطرفين إلى محاولة استمالة الدول الأفريقية التي وجدت في ذلك فرصة جيدة لاستقبال المزيد من المساعدات الاقتصادية والتنموية والقروض في مقابل تبني موقف مؤيد لأحد الطرفين في الأمم المتحدة، وهو ما ظهر في تقديم واشنطن نحو 65 مليار دولار لأفريقيا في ديسمبر الماضي في شكل مشروعات ومساعدات اقتصادية وتنموية وغيرها.
كما انعكس التحول الدولي للاعتماد على النفط الأفريقي بديلاً عن الغاز الروسي منذ اندلاع الحرب في شرق أوروبا وتداعياتها على ارتفاع أسعار النفط على زيادة مداخيل الإيرادات المالية للدول الأفريقية النفطية. فقد أتاحت الحرب في شرق أفريقيا الفرصة لمنتجي النفط الأفارقة مثل نيجيريا وأنجولا وليبيا والجزائر للاستفادة من عائدات الصادرات النفطية لأوروبا، فعلى سبيل المثال، تمثل صادرات النفط والغاز 90% من عائدات النقد الأجنبي في نيجيريا.
ـ توسع النفوذ الروسي في أفريقيا
ثمة تحولات استراتيجية تشهدها بعض المناطق الاستراتيجية في أفريقيا لا سيما منطقة الساحل، فهناك ترحيب شعبي بالتواجد الروسي في بعض دول المنطقة وانتشار قوات فاغنر الأمنية الخاصة من أجل محاربة الإرهاب هناك، خاصة بعد انسحاب فرنسا التدريجي من بعض الدول مثل مالي وبوركينا فاسو.
وتحاول روسيا تقديم مسار بديل للأفارقة معتمدة في ذلك على ما تسميه بعض الكتابات بـ "الحنين" للحقبة السوفيتية في مواجهة الدول الغربية والولايات المتحدة والمشروطات السياسية والاقتصادية التي تعتبر ركيزة في علاقات الغرب مع أفريقيا التي باتت تمتعض من هذه السياسة، وبدأت تبحث عن بديل دولي جديد.
لذلك تقوم موسكو بتوسيع الارتباطات الاقتصادية في أفريقيا، وتعزيز الفرص الاقتصادية في القطاعات الأساسية بما في ذلك قطاع الطاقة.
، وهو ما يعزز حالة القلق الدولي تجاه تصاعد النفوذ الروسي، وذلك بالرغم من ضآلة حجم الاستثمارات الروسية في أفريقيا التي لا تتجاوز مساهمتها سوى 1% من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في القارة، مما يعكس التزامها المحدود تجاه أفريقيا. كما أن حجم تجارتها مع أفريقيا يبلغ 14 مليار دولار مقارنة بحجم تجارة الاتحاد الأوروبي مع القارة (295 مليار دولار) أو الصين (254مليار دولار) أو الولايات المتحدة الأمريكية (65 مليار دولار).
على الجانب الآخر، توفر الحرب الروسية-الأوكرانية فرصاً حقيقية لدول القارة الأفريقية لإبراز دور القارة الأفريقية وكذلك تعزيز مكانتها وتحقيق مصالحها وأهمها الحصول على مقعد أو مقعدين في مجلس الأمن والانضمام إلى عدد من المنظمات الدولية الكبيرة مثل مجموعة العشرين، حيث أصبحت أفريقيا جزءاً مهماً في إدارة النظام الدولي، وهي شريك رئيسي للقوى الدولية المختلفة في قضايا متعددة.
المراجع
- أميرة محمد خبيرة الشئون الأفريقية، التنافس الدولي على افريقيا، مركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية.
- أحمد عسكر، 26/ 2/ 2023، حسابات أفريقيا بعد عام من الحرب الروسية-الأوكرانية، مركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية.
- تامر الهلالي، 24/ 12/ 2022، التنافس الدولي في أفريقيا، الشرق الأوسط.