دوافع المناورة الدبلوماسية الروسية في الشرق الأوسط
فرع بنغازي

شهد شهر فبراير 2025 تحركات دبلوماسية روسية واسعة في منطقة الشرق الأوسط، تمثلت في جولة قام بها وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، استهلها بلقاء في السعودية مع وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، في 18فبراير الماضي، تلته زيارات متتابعة إلى كل من تركيا في 23 فبراير، وإيران في 25 فبراير، وقطر في 26 فبراير.

وجاءت جولة لافروف في توقيت حرج، يشهد تحولات كبيرة على الصعيدين الإقليمي والدولي، حيث تحاول روسيا تعزيز نفوذها وإعادة تشكيل دورها في مواجهة الضغوط الغربية والعقوبات المرتبطة بالحرب في أوكرانيا. ومن خلال هذه الجولة، سعت موسكو إلى تحقيق عدة أهداف استراتيجية ذات طابع دبلوماسي واقتصادي وعسكري، في ظل التحديات الكبيرة التي تواجهها روسيا والمتعلقة بالتطورات الراهنة، سواء في الشرق الأوسط أم في السياقات الدولية الأوسع.

دوافع دولية:

من منظور دولي، يمكن تحليل جولة لافروف الإقليمية في إطار سعي روسيا لتحقيق توازنات جديدة في علاقاتها الدولية. ففي ظل العقوبات الاقتصادية والعزلة التي تفرضها الدول الغربية عليها نتيجة الحرب في أوكرانيا، تسعى موسكو إلى تعميق علاقاتها مع دول الشرق الأوسط كشركاء يمكنهم مساعدتها على تجاوز هذه الضغوط، وهو ما يمكن توضيحه في التالي:

1– تأكيد مكانة روسيا كفاعل دولي: تسعى موسكو إلى تأكيد أنها ما تزال فاعلاً رئيساً في السياسة العالمية، بالرغم من التحديات التي تواجهها في أوكرانيا. وهدفت جولة لافروف إلى إبراز أن روسيا تحتفظ بعلاقات وثيقة مع قوى إقليمية مثل تركيا وإيران، وتسعى إلى علاقات أقوى مع دول الخليج. وقد تمكنت روسيا، من خلال هذه الجولة، من إرسال رسالة واضحة بأنها تحتفظ بقدرتها على التأثير في الشؤون الدولية، من خلال شراكاتها في الشرق الأوسط، وهي منطقة ذات أهمية جيوسياسية بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا.

2– تخفيف التوتر مع واشنطن: بدأ لافروف جولته من العاصمة السعودية الرياض، حيث عقد لقاءً مع وزير الخارجية الأمريكي، روبيو. وعلى الرغم من الخلافات العميقة بين موسكو وواشنطن، بدا أن ثمة توافقاً مبدئياً على ضرورة تقليل حدة التوترات الدبلوماسية والعسكرية. وكما يبدو، فقد كان هذا الاجتماع فرصة لبناء أرضية مشتركة للحوار بشأن عدد من القضايا بما في ذلك الأمن السيبراني ومنع الانتشار النووي، في إطار محاولات لتحسين العلاقات الثنائية المتوترة. كما أن أحد الأهداف المُحتملة من هذا اللقاء تمثل في محاولة التوافق حول بعض الملفات الساخنة، مثل الملف النووي الإيراني، حيث يسعى الطرفان الأمريكي والروسي لإيجاد تسوية تمنع تصاعد الصراع في المنطقة. فضلاً عن أن الاستقرار في أسواق الطاقة قد يكون محوراً أساسياً آخر في اللقاء، حيث تُعد السعودية فاعلاً رئيساً في منظمة "أوبك" ولديها القدرة على التأثير في أسعار النفط العالمية، وهو موضوع مهم لكل من موسكو وواشنطن في هذا التوقيت الحرج.

 

3– التحضير لاجتماع بوتين وترامب: يُعد لقاء لافروف وروبيو خطوة تمهيدية للتحضير للاجتماع المرتقب بين الرئيسين الأمريكي، دونالد ترامب، والروسي، فلاديمير بوتين. ويأتي هذا الاجتماع في ظل إدراك الطرفين أن الحرب الأوكرانية أصبحت عبئاً سياسياً واقتصادياً، ليس فقط على كييف وموسكو، بل أيضاً على الدول الغربية وواشنطن على وجه الخصوص. فالولايات المتحدة تشهد خلافات داخلية حول الدعم المستمر لأوكرانيا، وتجد نفسها تحت ضغط لإيجاد مخرج يحفظ لها ماء الوجه، ويحقق لها الحد الأدنى من الأهداف الاستراتيجية.

في المقابل، تأثرت روسيا بشكل كبير بالعقوبات الغربية المفروضة عليها، وتسعى إلى إنهاء الحرب بطريقة تحفظ لها مكاسبها في أوكرانيا، ودون تحمُل المزيد من الاستنزاف العسكري والاقتصادي، وترى أن الوقت قد حان لتسوية النزاع من خلال محادثات دبلوماسية رفيعة المستوى. وهنا يأتي دور لقاء الرياض كخطوة تمهيدية لوضع الأسس اللازمة لإنجاح "قمة بوتين ترامب" المرتقبة.

4– الترويج لمبادرة روسية بشأن حرب أوكرانيا: أحد الأهداف الرئيسة لجولة لافروف هو التمهيد لبحث سُبل وقف الحرب في أوكرانيا، حيث تسعى موسكو لتخفيف حدة التوتر الدولي، وتقديم نفسها كقوة تسعى لحل النزاعات بطريقة دبلوماسية، بالرغم من أنها في الوقت نفسه تواصل عملياتها العسكرية في أوكرانيا. ومن الواضح أن موسكو تستغل علاقاتها مع بعض دول المنطقة، مثل السعودية وتركيا وإيران، والتي لها مواقف مؤثرة في النزاع الأوكراني، لتقديم حلول دبلوماسية. وقد يعزز نجاح هذه المحاولات موقع روسيا على الساحة الدولية، ويخفف من الضغوط والعزلة الدولية التي تعاني منها.

أهداف إقليمية:

على المستوى الإقليمي، جاءت جولة لافروف في وقت تتزايد فيه التوترات بالمنطقة؛ مما يفرض على روسيا تحقيق توازنات دقيقة في سياستها الخارجية؛ ومن ثم تتمثل الأهداف الإقليمية لموسكو من وراء جولة لافروف في الآتي:

1– تعزيز العلاقات مع دول الخليج: هدفت زيارة لافروف لكل من الرياض والدوحة إلى تعزيز العلاقات مع دول الخليج التي تؤدي دوراً محورياً في قضايا الطاقة والاستثمارات العالمية، خاصةً أن هذه الدول تسعى إلى تنويع علاقاتها الدولية بعيداً عن الاعتماد الكامل على الغرب؛ ومن ثم ترى موسكو في هذه الفرصة مجالاً لتعزيز الشراكات الاقتصادية والعسكرية الثنائية. واللافت أن لافروف اختتم جولته الإقليمية بزيارة قطر في 26 فبراير الماضي، حيث ركزت المباحثات على العلاقات الثنائية، ولاسيما في مجالات الطاقة والاستثمار. وتُعد قطر واحدة من أكبر مُنتجي الغاز الطبيعي في العالم، وتؤدي دوراً محورياً في تأمين إمدادات الطاقة إلى الأسواق العالمية؛ ولذا كان التعاون في هذا المجال موضوعاً رئيساً في المباحثات مع لافروف.

 

2– تعميق التحالف الاستراتيجي مع إيران: في ظل تصاعد التوترات بين إيران والغرب، تشكلت علاقة استراتيجية قوية بين موسكو وطهران. وتسعى روسيا لتعزيز هذا التحالف في مواجهة النفوذ الغربي بالمنطقة، وفي الوقت نفسه يوفر لها ذلك التحالف شريكاً في العديد من الملفات الإقليمية ذات الاهتمام المشترك؛ ومن ثم كان اللقاء بين لافروف والقادة الإيرانيين فرصة لتعميق التعاون بين البلدين. ويمتد هذا التعاون إلى المجال العسكري، في ظل التحديات المشتركة التي تواجه روسيا وإيران، خاصةً مع تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة. وكانت زيارة لافروف لإيران فرصة لتعزيز تحالف الجانبين الذي يخدم المصالح الروسية في الشرق الأوسط. 

 

3– الحفاظ على علاقات متوازنة مع تركيا: تتسم العلاقات بين روسيا وتركيا بالتعقيد، فالبلدان تجمعهما علاقات قوية في مجال الاقتصاد، وفي الوقت ذاته تتباين مواقفهما بشأن عدة قضايا إقليمية مثل الأوضاع الراهنة في سوريا. وقد هدفت زيارة لافروف لأنقرة إلى الحفاظ على التوازن في العلاقات الثنائية، وتعزيز التعاون الاقتصادي والعسكري، مع تأكيد تجنب أي تصعيد في المناطق التي تشهد تداخلاً لمصالح البلدين. وجددت روسيا وتركيا التزامهما بتوسيع التعاون في مجال الطاقة، خاصةً مع الاستمرار في تشغيل خط أنابيب الغاز "السيل التركي" الذي ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية. ويأتي هذا التعاون في وقت حساس، حيث تسعى موسكو إلى الحفاظ على دورها كمصدر رئيسي للطاقة إلى أوروبا، بالرغم من العقوبات الاقتصادية الغربية عليها. هذا فضلاً عن تناول المحادثات، أيضاً، التنسيق العسكري بين موسكو وأنقرة في سوريا.

تحديات متشابكة:

على الرغم من بعض النتائج الإيجابية التي نتجت عن جولة لافروف؛ فإن هناك عدة تحديات تواجه روسيا لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، ومنها الآتي:

1– التوترات المستمرة مع الغرب: بالرغم من محاولات موسكو تعزيز علاقاتها مع دول الشرق الأوسط؛ فإن التوترات المستمرة مع الولايات المتحدة وأوروبا تفرض قيوداً على قدرتها على تحقيق نتائج دبلوماسية واقتصادية مستدامة. كما أن بعض دول المنطقة قد تجد نفسها مضطرة للاختيار بين التحالف مع الغرب أو تعزيز علاقاتها مع روسيا. وهكذا، قد تجد موسكو نفسها في موقف صعب، حيث تسعى إلى تعزيز نفوذها في المنطقة دون أن تفقد حلفاءها، أو تدخل في صدامات غير مرغوبة مع الغرب أو بعض دول المنطقة.

2– الصراعات والتحديات الاقتصادية: تعاني منطقة الشرق الأوسط من عدة صراعات، وتحاول روسيا أداء دور الوسيط في بعضها، لكن موقفها المتباين إزاء عدد من الملفات قد يجعل من الصعب عليها تحقيق نجاحات دبلوماسية ملموسة. أما من حيث التحديات الاقتصادية، فبالرغم من جهود موسكو لتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دول المنطقة؛ فإن العقوبات الغربية تؤثر في الاقتصاد الروسي بشكل مباشر؛ وهو ما يُصعب على موسكو تقديم الدعم الاقتصادي الذي ربما تحتاجه بعض دول المنطقة لتعزيز الشراكات التجارية والاستثمارية.

3– تطور الأوضاع الدولية والإقليمية: حققت جولة لافروف الإقليمية بعض أهدافها بالنسبة لروسيا، خاصةً فيما يتعلق بتطوير العلاقات الثنائية مع دول محورية في المنطقة؛ ومع ذلك، فإن قدرة موسكو على تحقيق نتائج مستدامة من هذه الجولة تعتمد على تطورات الأوضاع الدولية والإقليمية خلال الفترة المقبلة. وإذا نجحت روسيا في تعزيز موقفها الدبلوماسي والعسكري بالمنطقة، قد تتمكن من إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية بما يخدم مصالحها. أما إذا تصاعدت التوترات الدولية لروسيا خاصةً مع الغرب، فقد تجد موسكو نفسها في موقف أكثر تعقيداً؛ مما سيؤثر في قدرتها على المناورة وتحقيق أهدافها الاستراتيجية.

 





المراجع:

حسين معلوم،5. 3، 2025 ،دوافع المناورة الدبلوماسية الروسية في الشرق الأوسط مركز المستقبل.

آنا بورشفسكايا،9.3.2024، كيف أصبح الشرق الأوسط ساحة لصراع بوتين على السلطة مع الولايات المتحدة،https://www.washingtoninstitute.org/ar.

المقالات الأخيرة