بعد فترة وجيزة من انحسار النفوذ الروسي في الخارج عقب تفكك الاتحاد السوفييتي، أطلقت طموحات بوتين لإحياء إرث الماضي السوفيتي، حملة جديدة تهدف إلى توسيع الوجود العسكري والتجاري لروسيا في أفريقيا وفي صميم هذه الاستراتيجية يقع تأمين موطئ قدم بحري في البحر الأحمر ذي الأهمية الاستراتيجية القصوى، حيث يبرز السودان وإريتريا، الدولتان اللتان تتشاركان في فتور العلاقات مع الغرب كأبرز المرشحين لاستضافة هذا الميناء الحيوي
وتُولي موسكو أهمية استثنائية لتعزيز قوتها البحرية في البحر الأحمر لما له من تأثير محوري على مصالحها الاقتصادية الإقليمية؛ إذ يمر عبر هذا المضيق المائي الهام ما يقارب 15% من حجم التجارة العالمية، بما في ذلك تدفقات النفط الروسي المتجهة عبر قناة السويس أو القادمة منها فلطالما كانت إفريقيا هدفًا استراتيجيًا لروسيا في سعيها لتعزيز نفوذها الجيوسياسي، خاصة بعد عقود من الهيمنة الغربية على القارة
في خطوة ذات منفعة استراتيجية واضحة لروسيا، توصلت موسكو والخرطوم في منتصف فبراير الماضي إلى اتفاق بشأن إنشاء قاعدة بحرية روسية في السودان ويُعتقد أن دعم موسكو الراسخ للجيش السوداني إلى جانب تزايد حاجتها لقاعدة بحرية بعد سقوط الأسد وإخراج أسطولها من سوريا، كان دافعًا رئيسيًا لهذا الاتفاق وبموجب الاتفاقية الموقعة بين البلدين، سيتم إنشاء منشأة بحرية روسية على ساحل البحر الأحمر السوداني، مخصصة لتقديم خدمات الإصلاح وإعادة الإمداد والتموين لوحدات البحرية الروسية في المنطقة مع قدرة استيعابية تصل إلى 300 فرد عسكري ومدني واستقبال أربع سفن في وقت واحد
التحرك السوداني الاستراتيجي
في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي التي يشهدها السودان، يبحث عن قوى إقليمية ودولية تقدم له الدعم العسكري والاقتصادي وقد وجدت موسكو في هذا الوضع فرصة سانحة لإبرام صفقة ذات منفعة مشتركة، مع تزويد الجيش السوداني بالسلاح والتدريب وتُصر روسيا على إقامة قاعدة بحرية في السودان، وتحديدًا في بورتسودان المطلة على البحر الأحمر في خطوة استراتيجية تهدف إلى تحقيق نفوذ غير مسبوق على أحد أهم الممرات البحرية في العالم، فالبحر الأحمر ليس مجرد ممر مائي، بل هو نقطة وصل استراتيجية بين آسيا وأوروبا وشريان اقتصادي حيوي لنقل السلع والطاقة، حيث يشهد عبور أكثر من خمسة ملايين برميل من النفط يوميًا، مما يجعله منطقة ذات حساسية جيوسياسية واقتصادية فائقة
ويُنظر إلى هذا الإصرار من الكرملين على أنه تحرك استراتيجي جريء يسعى إلى إعادة تشكيل موازين القوى العالمية وتأمين موطئ قدم استراتيجي في هذا الممر الملاحي الحيوي، في مواجهة مباشرة للنفوذ الأمريكي والغربي المتنامي في المنطقة كما أن إنشاء هذه القاعدة يمثل تطورًا جيوسياسيًا هامًا في حقبة ما بعد الحرب الباردة، ويعزز بشكل كبير من قدرات روسيا الاستراتيجية في كل من أفريقيا والشرق الأوسط على الصعيدين العسكري والاقتصادي، حيث يعني اقتراب موسكو بخطوة حاسمة نحو بسط نفوذها على أحد أهم الممرات المائية في العالم
وعلى ما سبق، يمكن القول إن هذا الوجود يمنح روسيا القدرة على الإشراف والتحكم في شريان حيوي للتجارة البحرية العالمية، وتعزيز نفوذها بالقرب من مناطقها الاقتصادية الحيوية بالإضافة إلى إمكانية مد نفوذها العسكري في مناطق استراتيجية مثل شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية وشرق أفريقيا كما يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها محاولة لتقويض الهيمنة العسكرية الغربية في هذه المنطقة الحساسة، فضلاً عن توفير نقطة انطلاق لوجستية استراتيجية لدعم الانتشار العسكري الروسي في عمق المحيط الهندي وما وراءه، مستغلة انشغال حلف شمال الأطلسي بالملف الأوروبي
في استمرار للنهج السوفيتي الجديد في المنطقة، كشفت مجموعة من الشركات الروسية مطلع الشهر الحالي عن خطط طموحة للاستثمار في السودان في قطاعات حيوية متعددة وتشمل هذه القطاعات الزراعة، والبنية التحتية، والطاقة وخدماتها، بالإضافة إلى إنشاء المطارات وتقديم خدماتها، وتوريد المعدات الجوية والطيران المدني، مما يشير إلى توجه استثماري روسي واسع النطاق تجاه السودان في المستقبل القريب
وقد رحب وزير المالية والتخطيط الاقتصادي السوداني، خلال اجتماعه بالسفير الروسي والوفد المرافق من رجال الأعمال والشركات الروسية، وعلى رأسهم رجل الأعمال شمعدانوف، بهذه الاستثمارات وأكد أن الحكومة السودانية ستدرس جميع المجالات الاستثمارية المقترحة بعناية، بهدف مواءمتها مع أولويات البلاد في مرحلة البناء وإعادة الإعمار، وهو ما يعد جزءًا أساسيًا من جهود تطوير قطاع الطيران المدني في السودان كما يُنتظر أن تلعب الشركات الروسية دورًا محوريًا في مشاريع الطاقة وإعادة تأهيل البنية التحتية، ما قد يسهم في إنعاش الاقتصاد السوداني واستعادة الخدمات الحيوية للمواطنين
في الشأن السياسي، أبدت روسيا معارضتها الصريحة لما وصفته بالمحاولات الغربية لإنشاء “آليات دولية تفرض أجندات استعمارية حديثة على السودانيين” وبدلاً من ذلك، دعت إلى دعم الجهود التي تهدف إلى تهدئة الصراع في السودان عبر مسار سلمي واستئناف حوار وطني شامل يضم كافة القوى المؤثرة والتكوينات العرقية والدينية وأوضحت موسكو أن تشجيع استئناف هذا الحوار بمشاركة جميع الأطراف الفاعلة والمكونات المجتمعية، مع إعطاء الأولوية للقوى ذات التأييد الشعبي الأكبر، يندرج ضمن استراتيجيتها للحفاظ على استقرار المنطقة وتنمية المصالح المشتركة
التحديات الروسية القائمة
لم يكن إعلان روسيا عن إنشاء قاعدة بحرية في السودان مجرد اتفاق عسكري روتيني، بل تجاوز ذلك ليصبح خطوة ذات دلالات جيوسياسية عميقة أثارت قلقًا بالغًا في أوساط صنع القرار الغربية، خاصة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اللذين يراقبان الموقف عن كثب لما قد يحمله من تأثير على ميزان القوى الإقليمي ولا يقتصر التهديد الغربي على الجانب الاقتصادي فحسب، بل يمتد ليشمل أبعادًا عسكرية وأمنية فمن المحتمل أن تستخدم روسيا قاعدتها في السودان لتعزيز عملياتها في أفريقيا وتسهيل نقل الأسلحة إلى حلفائها في المنطقة، وهو ما قد يعقد الحسابات الأمنية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي الساعيين للحد من النفوذ الروسي المتنامي في القارة أما بالنسبة لإسرائيل، فإنها تنظر إلى الوجود العسكري الروسي في السودان كتهديد غير مباشر لمصالحها الأمنية
سجالات سبقت الإعلان النهائي
وكانت موسكو والخرطوم اتفقتا في عام 2017 خلال زيارة للرئيس السوداني المخلوع عمر البشير إلى موسكو على إنشاء قاعدة بحرية في بورتسودان، لكن الاتفاق لم يتم التصديق عليه في الخرطوم في حين سارت موسكو من جانبها خطوات لمنح الاتفاق قوة قانونية عبر المصادقة عليه في مجلس الدوما (النواب).
وفي منتصف عام 2021 بعد مرور أسابيع قليلة على إعلان الخرطوم تجميد العمل باتفاقية إنشاء القاعدة العسكرية الروسية في بورتسودان، سرّعت موسكو خطواتها لتحويل الوثيقة إلى اتفاق ملزم، عبر مروره بكل آليات الإقرار القانونية التي نص عليها.
وأمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في حينها، بإحالة الاتفاقية إلى مجلس الدوما (النواب) للمصادقة عليها، في ثاني خطوات الإقرار النهائي للاتفاق بعدما صدّقت الحكومة الروسية عليها رسمياً قبل أسبوع واحد. وجاء التطور آنذاك، رغم أن القيادة السودانية أبلغت موسكو بموقفها بشكل مباشر ورسمي عبر اتصالات جرت على المستويين العسكري والدبلوماسي، وكان أبرزها زيارة وفد من وزارة الدفاع الروسية برئاسة نائب الوزير ألكسندر فومين إلى الخرطوم، وزيارة وزير الدفاع السوداني إلى موسكو، في إطار مشاركته في مؤتمر الأمن الدولي الذي نظمته وزارة الدفاع الروسية في مايو 2021.
وأظهر التحرك الروسي أن موسكو سعت إلى الضغط على الحكومة السودانية الجديدة في ذلك الوقت، رغم تصريحات رئيس أركان القوات المسلحة محمد عثمان الحسين، الذي قال إن «الخرطوم تعتزم مراجعة اتفاق إنشاء قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر»، مشيراً إلى أن «الوثيقة أقرّتها الحكومة السابقة ولم يصدّق عليها مجلس النواب».
ورغم الموقف السوداني، أعلنت وزارة الخارجية الروسية أن الاتفاق يبقى ملزماً للطرفين، لأن «هذا الاتفاق تم توقيعه في الخرطوم يوم 23 يوليو 2019 من قبل مسؤول مكلف للمجلس العسكري الانتقالي في السودان أي بعد تغيير النظام السياسي في السودان»، وفقاً لتعليق الناطقة باسم الوزارة ماريا زاخاروفا التي أضافت أن «الوثيقة لم تجرِ حتى الآن المصادقة عليها من قبل الطرف السوداني لأنه لا يوجد حالياً في البلاد جهاز سلطة تشريعية يتمتع بمثل هذه الصلاحيات».
في المقابل، لمّحت زاخاروفا إلى استعداد الجانب الروسي لإبداء مرونة في مراجعة نص الاتفاق، وقالت إن «موسكو مهتمة بتعزيز التعاون مع الخرطوم. ونص الوثيقة يمكن أن يتغير» وأوضحت أنه «يمكن حتى دخول الاتفاق حيز التنفيذ إجراء تغييرات جوهرية في نصه بالتنسيق بين الطرفين وفي حال وجود مبادرة لذلك من قبل أي منهما».
ونص الاتفاق في صياغته الأولى التي يمكن أن تكون قد خضعت لبعض التعديلات في إطار التفاهم الجديد على منح روسيا حق استخدام مركز لوجيستي عملياتي في بورتسودان، على ألا يتجاوز الحد الأقصى لعدد أفراد المركز البحري العاملين في آن واحد 300 عسكري، كما لن يتمكن أكثر من 4 سفن حربية روسية من البقاء هناك في وقت واحد كما نص الاتفاق على أنه يسري لمدة 25 عاماً مع إمكانية التمديد بعد انقضاء هذه الفترة.
اللافت أن التفاهم الجديد قد يكون جزءاً من اتفاقيات أوسع، كانت موسكو والخرطوم قد لمّحت إليها في وقت سابق.
وكان وزير الدفاع السوداني ياسين إبراهيم ياسين قد قال خلال زيارة سابقة إلى موسكو إن «الحديث في الواقع لا يدور عن اتفاقية واحدة، بل عن 4 اتفاقيات متعلقة بالتعاون العسكري بين البلدين تقضي بإنشاء ممثلية لوزارة الدفاع الروسية في السودان وتسهيل دخول السفن الحربية الروسية في الموانئ السودانية ومن ثم الاتفاق على إنشاء مركز دعم لوجيستي روسي في السودان» ولفت إبراهيم إلى أن 3 من هذه الاتفاقيات لا تزال مستمرة، وهناك «بعض المسائل التكميلية بالنسبة لها».
كما برزت معطيات عن أن موسكو تتعهد بموجب الاتفاق بدعم قدرات الجيش السوداني. وكان المحلل السوداني عثمان الميرغني قد قال لوسائل إعلام، في وقت سابق، إن «الجيش السوداني في حاجة ماسة إلى الأسلحة والذخائر وقطع الغيار لطائراته المقاتلة روسية الصنع» ورأى أن «تقديم قاعدة بحرية لروسيا في المقابل هو الخيار الأفضل».
في النهاية، يمكن القول إنه رغم التقارب الروسي السوداني، ومحاولات موسكو الجادة في انجاز صفقتها إلا أن مستقبل القاعدة الروسية في السودان، لا يزال يكتنفه الغموض ويواجه مخاطر جمة، سواء على الصعيد الداخلي أو الدولي فهناك تحديات متعددة قد تعيق تنفيذ المشروع وتضع موسكو أمام عقبات من شأنها تغيير مسار خططها في أفريقيا في مقدمة هذه التحديات يأتي الوضع السياسي غير المستقر في السودان، الذي يعاني من هشاشة أمنية وسياسية، مما قد يدفع الحكومة السودانية إلى إعادة تقييم الاتفاقية المعقدة في ظل الصراعات الداخلية بين الفصائل السياسية والجيش بالإضافة إلى ذلك، تمثل التحديات الاقتصادية عائقًا كبيرًا أمام المشروع، حيث يتطلب بناء قاعدة بحرية بهذا الحجم استثمارات ضخمة قد تجد موسكو صعوبة في تأمين التمويل اللازم لتشييدها وتشغيلها على النحو المطلوب وعليه، يظل السؤال الحاسم معلقًا، هل ستنجح موسكو في تجاوز هذه التحديات وترسيخ وجودها في السودان؟ أم أن الضغوط الدولية والداخلية ستؤدي إلى تأجيل هذا المشروع الطموح إلى أجل غير مسمى؟
المصدر: مركز رع للدراسات الاستراتيجية
الكاتب : د. جيهان عبدالرحمن
التاريخ : 20/4/2025
------------------------------------
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط
الكاتب : رائد جبر
التاريخ : 12/2/2025