يُعرّف الاقتصاديون الاقتصاد الدائري على أنه نموذج اقتصادي حيوي نشط يحفز على التحكم بشكل أكبر في الموارد والإمكانات، ويستهدف تقليل الهدر في المواد الخام والمستخدمة والسلع والطاقة، والاستفادة منها قدر الإمكان بما ينعكس على خفض الإنفاق وترشيد الاستهلاك وتقليص الانبعاثات وتقليل النفايات وتحسين البيئة، كما يسهم الاقتصاد الدائري في تعظيم الاستفادة من جميع المواد الخام والمعادن والموارد بمختلف حالاتها وأشكالها وأنماطها، فضلاً عن إطلاق عمليات إعادة التدوير والتصنيع والتطوير والاستخدام .
كما يعمل على تغيير في شكل المواد الخام لتعظيم قيمتها وجعلها أكثر ملاءمة لحاجات الإنسان ومتطلباته، وتبرز أهميته في تحسين ورفع مستوى المعيشة للإنسان بما تدره من عوائد مادية وما توفره من رفاهية بنتاجاتها المختلفة، ناهيك عن أنها وسيلة مهمة لتشغيل الأيدي العاملة مع ما تسهم به هذه الصناعة من تطوير للنشاطات الاقتصادية الأخرى، كالزراعة والتجارة، والنقل بما تقدمه من منتجات أساسية، كالمخصبات والآلات الزراعية ومواد الطاقة ووسائل النقل الحديثة .
كما ساعد مع انبثاق الثورة الصناعية الرابعة ظهور التقنيات الحديثة التي تشكلت ملامحها في الذكاء الاصطناعي، وتحليل وفرز ونقل البيانات وإنترنت الأشياء وتقنية النانو، مما أسهمت جميعها في انتعاش كثير من القطاعات الصناعية والإنتاجية المختلفة
مفهوم الاقتصاد الدائري يعني بوجه عام كيفية تطوير الأنظمة الإنتاجية والاستهلاكية والتعريف بقيمة الأشياء وأهمية الاستخدام الفعال وتقليل الآثار السلبية الناجمة عن الأنماط الاقتصادية التقليدية، كما أنه يسهم في خلق فرص اقتصادية واستثمارية أفضل للشركات والمؤسسات، فضلاً على المزايا البيئية والصحية والاجتماعية. وهذا المصطلح لا يُعدُّ مصطلحاً وليد السنوات الأخيرة، بل إنه يضرب بجذور عميقة في عالمنا منذ عقود عند ابتكار مفهوم التدوير وإعادة الاستخدام، وظهر بشكل واضح في الدول الصناعية بعد الحرب العالمية الثانية عندما حاولت حكومات عدَّة استغلال التقنيات والمكننة في إعادة التصنيع والتوجه نحو تطوير ما لديها من مواد وإعادة تدويرها وتصنيعها .
يأتي دور الاقتصاد الدائري في إعادة السياسات الحكومية والمالية والاقتصادية إلى مسارها الداعم للبيئة والمجتمعات ودورة الحياة وتلبية أهداف حماية المناخ وكوكب الأرض، ومن هنا أيضاً يستفيد العالم من المبادرات البيئية التي أطلقت مؤخراً على مستوى العالم لمكافحة التغيرات المناخية والتحول نحو اقتصادات صفرية الانبعاثات الكربونية في شتى القطاعات.
لقد تطوّر الفهم المعاصر للاقتصاد الدائري وتطبيقاته العملية على النظم الاقتصادية، بحيث يرى مؤيدو هذا التوجه أنه لا يعني انخفاضًا في نوعية الحياة للمستهلكين بل يمكن تحقيقه من دون نقص في الإيرادات أو زيادة في التكاليف الإضافية للمصنعين والمنتجات الصناعية، إذن نستطيع أن نقول وبشكل بدهي إن الاقتصاد الدائري أكثر استدامة من النظام الاقتصادي النمطي الخطي، حيث يعتمد تقليل الموارد المستخدمة والنفايات الناجمة عن الهدر أو التسرب، ويحفظ الموارد، ويساعد على تقليل التلوث البيئي، ويعمل على سد الفجوة بين دورات الإنتاج ودورات النظم البيئية الطبيعية التي تعتمد عليها حياة المجتمعات البشرية ورفاهيتها والحفاظ على مواردها ومقدراتها.
دور الاقتصاد الدائري في تحقيق التنمية المستدامة
يعتبر الاقتصاد الدائري نموذجا اقتصاديا متميزا ومبتكرا، حيث تعقد عليه الآمال في القضاء على مساوئ الاقتصاد الخطي السائد , تسليط الضوء على الأدوار التي يمكن أن يلعبها الاقتصاد الدائري للوصول إلى تنمية مستدامة فعلية من خلال التطرق إلى أهم المساهمات الاقتصادية والبيئية التي يمكن للاقتصاد الدائري أن يقدمها بتحويل النفايات من عبئ إلى مورد اقتصادي باستطاعته خلق قيمة مضافة للاقتصاديات والحد من الأخطار التي تشكلها النفايات على صحة واستدامة المجتمعات.
من الاقتصاد الخطي إلى الاقتصاد الدائري
جرى تحديد مكوّنات واستراتيجيات نموذج الاقتصاد الدائري لأول مرة في مطلع ثمانينات القرن الماضي وخلال العقود الماضية، كانت هناك مراجعات مستمرة لهذا النموذج وفيما كانت منهجية الاقتصاد الدائري تقوم فقط على إدارة النفايات، بما فيها الجمع والفصل والتدوير وإعادة الاستخدام، فإن المقاربة الحالية تتبنى أيضاً التصميم الأمثل للمنتجات وتقليل الاستهلاك والإدارة المستدامة للموارد.
إن الهدف العام للاقتصاد الدائري هو استخدام الموارد بأفضل طريقة متاحة لأطول وقت ممكن فكلما جرى تناقل الموارد عبر عمليات المعالجة المختلفة، أو من خلال إعادة الاستخدام أو الإصلاح أو إعادة التصميم أو إعادة التصنيع، قلت الحاجة إلى مواد خام جديدة، وتناقصت كمية المخلفات.
وعلى نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، تنفد المياه العذبة بمعدلات تنذر بالخطر، وقد يؤدي ذلك إلى انقراض كثير من أنواع الحيوانات، حيث من المحتمل أننا سنحتفظ بالمياه لأنفسنا ولغذائنا. فإذا توقفت الشركات عن الأفراط في استخراج مصادر المياه الجوفية، يمكننا حل مشكلة نقص المياه في العالم ويساعد الاقتصاد الدائري في تحقيق ذلك من خلال اعتماد الشركات على أنظمة إعادة التدوير للمياه الرمادية.
ينطوي تسريع الانتقال إلى الاقتصاد الدائري على إجراء تحول واسع في قطاع الأعمال وفي ذهنية المستهلك، وهذا يعني اعتماد عمليات إنتاج وأنماط استهلاك مستدامة ولتحقيق ذلك يجب وضع قوانين وسياسات جديدة تقوم على تنقيح وإعادة تصميم نماذج العمل، أو وضع نماذج جديدة تناسب الصناعات وتضع في الحسبان الكلف البيئية والاجتماعية طويلة الأمد لعمليات الإنتاج والتخلص إلى جانب ابتكار تقنيات جديدة وإحداث تغييرات جوهرية في أنماط الاستهلاك.
الاقتصاد الدائري وأهداف التنمية المستدامة
تزايدت في الآونة الأخيرة الدعوات العالمية التي تنادي بضرورة ترشيد الاستهلاك وتقليله إلى أدنى حد ممكن، نظراً إلى ارتباط الاستهلاك بشكل مباشر بتفاقم العديد من المشكلات البيئية، التي ربما يعد أبرزها مشكلة زيادة توليد المخلفات الناتجة عن الاستهلاك والإنتاج غير المستدامين، واستنزاف الموارد، ما يشكل عبئاً كبيراً على البيئة وعلى الحكومات، وخاصة في دول مجلس التعاون. وضعت اتفاقية باريس لتغير المناخ 17 هدفاً لتحقيق التنمية المستدامة بحلول عام 2030 تغطي مجموعة واسعة من قضايا التنمية. ومن الواضح ارتباط مشكلة تزايد معدل إنتاج المخلفات بالعديد من أهداف التنمية المستدامة بشكل مباشر أوغير مباشر، أبرزها الهدف الثاني عشر المرتبط بالإنتاج والاستهلاك المستدامين المسؤولين. ولكي نصل إلى تحقيق هذا الهدف علينا أولاً إعداد إستراتيجية وطنية متكاملة وشاملة لقطاع الإنتاج والاستهلاك وإدارة الموارد والمخلفات الناتجة، بحيث تعمل معاً بخط متوازٍ، وبتنسيق عالٍ بين جميع الأطراف المعنية.
تتفاقم كمية المخلفات الملقاة كنتيجة لاعتمادنا على ما يسمى بالاقتصاد الخطي، الذي يعمل من خلال استخلاص المواد، ثم تصنيع المنتجات التي تتحول إلى مخلفات، يتم التخلص منها بعد فترة قصيرة من استخدامها، ما يؤدي إلى استنزاف الموارد بشكل كبير وتشكيل عبء على البيئة، وخاصة مع غياب سياسات مستدامة لإدارة المخلفات التي تعد ثروة وأساساً للعديد من الصناعات، ومورداً متجدداً يفتح العديد من الآفاق الواعدة؛ لذا يكون الاقتصاد الدائري هو الحل، وخاصة في دول محدودة الموارد والمساحات ، والذي هو عبارة عن نموذج اقتصادي يستهدف تقليل المهدر من المواد والسلع والطاقة والاستفادة منها قدر الإمكان، بحيث يتم خفض الاستهلاك والمخلفات والانبعاثات الناتجة، وتعظيم الاستفادة من جميع المواد الخام والطاقة والموارد بمختلف صورها، اعتماداً على عمليات إعادة التدوير والاستخدام وإعادة التصنيع والتطوير، بدلاً من نمط الهدر. وبذلك يكون التنافس الابتكاري على كافة المستويات «لتصفير» المخلفات المحولة إلى المردم، وذلك بابتكار الوسائل التي تعظم الاستفادة من الموارد المهدرة بشتى صورها، والاستثمار في الاقتصاد الدائري، كتحويل المخلفات إلى طاقة والاستثمار في الأغراض المستعملة، وإعادة التصنيع والتي تعد من الفرص الواعدة لأي دولة . مفهوم الاقتصاد الدائري ليس جديداً بل اعتمده أجدادنا كجزء من عاداتهم وإرثهم التراثي كان يعد انعكاساً لمدى الوعي المستدام بحفاظهم على الموارد، وعلى حقوق الأجيال القادمة.