لم يكن الجدل المُثار عقب إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في يناير 2025 تغيير تسمية "خليج المكسيك" إلى "خليج أمريكا"، سوى أحد مظاهر النزاعات المرتبطة بين بعض الدول بالتسميات الجغرافية؛ إذ يتباين توظيف تلك الأسماء من جانب الدول للمناطق الجغرافية سواء البرية أو حتى البحرية في العلاقات الدولية في إطار تسيسالتسميات الجغرافية (Toponymy)، وإقرارها في الخرائط التابعة لها. فالتسمية الجغرافية ليست مجرد تعبير عن مكان، وإنما هي تعبير عن القوة والسيطرة في التفاعلات الدولية، وبما قد يدعم المطالبات الإقليمية، أو يؤكد سيادة دولة في مواجهة دولة أخرى.
تباين التسميات
تتعدد الأمثلة المرتبطة باختلاف التسميات الجغرافية بين بعض الدول في أقاليم العالم المختلفة، وذلك على النحو التالي:
1- تغيير إدارة ترامب اسم "خليج المكسيك": أصدر البيت الأبيض بياناً في 20 يناير 2025، يتضمن تغيير اسم "خليج المكسيك" إلى "خليج أمريكا"، وجاء في متن البيان أن المنطقة المعروفة سابقاً باسم خليج المكسيك كانت منذ فترة طويلة جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الأمريكي، وأن هذا الخليج الذي يُعد الأكبر في العالم يمتد الساحل الأمريكي على طوله لأكثر من 1700 ميل، كما أنه يوفر نحو 14% من إنتاج النفط الخام والغاز الطبيعي للولايات المتحدة، كما يعد الخليج وجهة تجارية وسياحية مفضلة بما يدعم الاقتصاد الأمريكي بمليارات الدولارات. وبالتزامن مع البيان فقد وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمراً تنفيذياً يقضي ببدء إجراءات إعادة تسمية "خليج المكسيك" ليصبح "خليج أمريكا"، وهو ما دفع شركة "جوجل" إلى تغيير اسم خليج المكسيك على منصة خرائط جوجل.
وقد قوبل الموقف الأمريكي بانتقاد لاذع من جانب المكسيك، التي رفضت تغيير اسم الخليج. واعتبرت رئيسةُ المكسيك "كلوديا شينباوم" ذلك الموقف خاطئاً بشكل كبير، وقدّمت اقتراحاً مضاداً بأن يتم إطلاق اسم "أمريكا المكسيكية" على أمريكا الشمالية؛ نظراً إلى أن تلك المنطقة كانت يطلق عليها هذا الاسم سابقاً في خرائط تعود إلى عام 1607، حيث كان يتم تسمية بعض أجزاء من أمريكا الشمالية بذلك الاسم. جدير بالذكر أن الولايات المتحدة بها مجلس الأسماء الجغرافية (BGN)، وهو مسؤول عن توحيد وتنسيق الأسماء الجغرافية داخل البلاد وفي المناطق التابعة لها، كما يُشرف المجلس على كتابة الأسماء الجغرافية الأجنبية في الوثائق الرسمية الأمريكية.
2- صراع التسميات الجغرافية بين الصين والفلبين: يمتد النزاع بين الصين والفلبين حول المطالبات الإقليمية إلى التسميات الجغرافية؛ إذ إن الصين تطلق على المسطح المائي محل الخلاف مع الفلبين اسم "بحر الصين الجنوبي" (South China Sea)، فيما تحدد الفلبين أجزاء من هذه المياه داخل منطقتها الاقتصادية الخالصة باسم "بحر الفلبين الغربي" (West Philippine Sea)، وقد أطلقت الفلبين هذا الاسم رسمياً في عام 2011، حين صدر مرسوم رئاسي يوجه جميع الوكالات الحكومية إلى استخدام هذه التسمية في الخرائط والمستندات الرسمية.
وقد لجأت الفلبين إلى المحكمة الدائمة للتحكيم في لاهاي حول هذا النزاع، وصدر حكم في عام 2016 يرفض مطالبات بكين التاريخية في بحر الصين الجنوبي كونها غير قائمة على أساس قانوني، وذكرت المحكمة في قرارها أنه لا توجد أدلة على أن الصين مارست عبر التاريخ أي سيطرة حصرية على المياه أو الموارد بالمنطقة.
3- تباين التسميات بين كوريا الجنوبية واليابان: أحد أبرز النزاعات المرتبطة بتسميات جغرافية ذلك القائم بين كوريا الجنوبية واليابان؛ إذ إن اليابان تطلق على البحر الواقع بينها وبين كوريا الجنوبية اسم "بحر اليابان" (Sea of Japan)، فيما تطلق كوريا الجنوبية تسمية "بحر الشرق" (East Sea).
جدير بالذكر أن الاسم الياباني قد لاقى اعترافاً دولياً منذ القرن التاسع عشر، وسط رفض كوري جنوبي، باعتبار أن هذا الاسم يحمل إرثاً استعمارياً كونه اكتسب شهرته خلال فترة الاستعمار الياباني لكوريا الجنوبية، وفي ظل ضغوط كورية بدأت بعض الخرائط تحمل الاسمين معاً، ولا يزال يمثل قضية حسّاسة في علاقات البلدين في الوقت الحالي.
4- خلاف روسيا وأوكرانيا حول تسمية "القرم": تعد شبه جزيرة القرم أحد محاور الخلافات التاريخية بين روسيا وأوكرانيا؛ حيث اتجهت موسكو إلى تسميتها "جمهورية القرم"، واعتبرتها جزءاً من أراضيها عقب ضمها في عام 2014، في حين ترفض أوكرانيا والولايات المتحدة والدول الغربية ذلك، وتصر على اسمها الرسمي شبه جزيرة القرم الأوكرانية (Ukraine’s Crimean Peninsula)، حتى إن المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، ترفض كذلك التسمية الروسية وتعتبر شبه جزيرة القرم جزءاً من أوكرانيا.
5- نزاع التسميات الجغرافية بين الهند والصين: في ظل الخلافات الحدودية بين الهند والصين، فإن تسمية ولاية "أروناتشال براديش" جزء من نزاع تسمية بين البلدين؛ حيث تطلق عليها الصين اسم التبت الجنوبية، بينما تعتبرها الهند ولاية رسمية منذ ثمانينيات القرن الماضي، في وقت تقوم فيه الصين بمنح بطاقات هوية صينية لسكان المنطقة كما تقوم بإصدار احتجاجات رسمية عند تنفيذ الهند أي مشروعات بها أو إجراء انتخابات بالولاية، ولا يزال الخلاف بين البلدين قائماً حتى الآن.
6- خلاف المغرب والجزائر حول تسمية "الصحراء": تعتبر الصحراء الواقعة شمال غرب أفريقيا، وتبلغ مساحتها نحو 266 ألف كيلومتر مربع، وفق الرؤية الرسمية للمغرب، جزءاً لا يتجزأ من أراضيه، ويطلق عليها اسم "الصحراء المغربية"، فيما تطلق الجزائر وجبهة البوليساريو عليها اسم الصحراء الغربية، مع اعتبار الإقليم محتلاً يجب أن يحصل على الاستقلال، وهو خلاف يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، وسط تباين المواقف الدولية حول القضية.
7- الاختلاف حول تسمية "تايوان" على المستوى الدولي: تعتبر الصين تايوان جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، وتُمارس ضغوطاً دبلوماسية مكثفة لمنع الاعتراف الدولي بتايوان ككيان ذي سيادة، ونتيجة لذلك يتم الإشارة إلى تايوان في العديد من المحافل الدولية باسم "تايبيه الصينية" بدلاً من اسمها الرسمي جمهورية الصين (Republic of China)، ويُعد هذا التوصيف بمنزلة حل توفيقي يسمح لتايوان بالمشاركة في فعاليات دولية كالألعاب الأولمبية علاوةً على عقد بعض الاتفاقيات التجارية، دون أن يشكل تحدياً مباشراً لسياسة الصين المعروفة بـ"مبدأ الصين الواحدة"، وقد تم اعتماد هذا النهج رسمياً في عام 1979، ما أتاح لتايوان الانخراط في بعض التفاعلات الدولية مع تجنُّب إثارة النزاعات السياسية.
تداعيات مختلفة
من شأن تمسُّك الدول بتسميات جغرافية مختلفة حول مناطق بعينها أن يحمل عدداً من التداعيات التي يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تنامي التنازع حول الحقوق السيادية بين الدول: يمكن أن يؤثر الاختلاف في التسميات الجغرافية بين الدول بشكل مباشر على الحقوق السيادية لكل دولة؛ حيث تصبح التسمية أداة سياسية تُستخدم لتعزيز مطالبات إقليمية أو نفي شرعية سيادة طرف آخر؛ إذ إن إصرار دولة ما على استخدام تسمية معينة لمنطقة متنازع عليها، يؤكد سيادتها عليها في المحافل الدولية، ما قد يؤدي إلى تصعيد الخلافات القانونية والدبلوماسية بين الدول، علاوةً على توجه الدول إلى تثبيت التسميات الجغرافية في المناهج الدراسية وعلى الخرائط التابعة لها في محاولة لإثبات الحقوق السيادية في مواجهة الطرف الآخر.
2- تأثيرات سلبية على العلاقات مع الأطراف الثالثة: تسعى كل دولة من الدولتين محل النزاع على التسميات الجغرافية لمناطق برية أو بحرية مشتركة، إلى محاولة استقطاب أطراف ثالثة من أجل تبني السردية نفسها، انطلاقاً من الاعتراف بالتسمية الجغرافية، وهو ما قد يحمل تبعات سلبية على تفاعلات الأطراف الثالثة مع الدول محل النزاع، خاصةً أن أي اعتراف دولي لأي دولة من الدول المتنازعة يعزز سرديتها وموقفها في مواجهة الدولة الأخرى.
3- التوسع في استدعاء الدول للمظالم التاريخية: يشكل التاريخ نقطة الانطلاق الرئيسية في "حروب الخرائط" بين الدول على التسميات الجغرافية التي تحمل رمزية كبيرة في الحقوق السيادية للدول؛ إذ إن كل دولة تقوم باستعادة المظالم التاريخية، وبما يحمله ذلك من تأجيج العلاقات بشكل أكبر مع الدول الأخرى، وبما يعرقل أي مساعٍ للتسوية، خاصةً مع تشكُّل رأي عام محلي يمثل عامل ضغط على الأنظمة السياسية والحكومات.
4- تصاعد فرض "الواقع الجديد" في العلاقات الدولية: تستخدم الدول والحكومات هذه الأسماء كأداة سياسية لترسيخ سيادتها أو التأثير على الرأي العام العالمي. فعلى سبيل المثال، عندما أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اسم "خليج أمريكا" على خليج المكسيك، كان ذلك محاولة لتأكيد الهيمنة الأمريكية على المنطقة، رغم أن هذا الخليج معروف عالمياً باسمه الأصلي، ومن ثم فإن مثل هذه التسميات تعكس توجه الدول إلى فرض واقع جديد يهدف إلى تقويض المطالبات السيادية للطرف الآخر، أو إعادة تشكيل الإدراك الجغرافي وفقاً لمصالحها السياسية، وهو ما يعزز النزاعات الإقليمية ويجعل الحلول الدبلوماسية أكثر تعقيداً؛ إذ يصبح الاعتراف بأي تسمية بمنزلة اعتراف ضمني بالسيادة السياسية لمن يستخدمها.
ختاماً، فإن النزاعات المرتبطة بالتسميات الجغرافية ليست مجرد اختلافات مرتبطة باللغة أو بالسردية، وإنما هي نزاعات متجذرة في العلاقات الدولية، في ظل اقترانها بالتوترات التاريخية والنزاعات الإقليمية، وارتباطها بمحاولة فرض شرعية سياسية داخلية أو خارجية، سواء كانت حقيقية أو متصورة، وبما يعكس صعوبة وضع حلول جذرية لمثل هذه النزاعات، ومع توجُّه بعض القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين إلى توظيف التسميات الجغرافية لتعزيز مصالحها وأمنها القومي، فمن المرجح أن يُشجع ذلك دولاً أخرى على عدم القبول بأي حلول وسط حول النزاعات المرتبطة بالتسميات الجغرافية في المستقبل القريب.
المراجع:
أحمد عبد العليم حسن، 6.2.2025، كيف تُؤجّج "التسميات الجغرافية" الصراعات الدولية؟، موقع إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية.
أحمد الباز، 21.4.20219، أنماط متزايدة ل “تسليح الجغرافيا” في الصراعات الدولية المستقبل للأبحاث والدراسات.