سلاح العملات الرقمية بين الصين والولايات المتحدة
فرع القاهرة

شهد العالم في السنوات الأخيرة تحولًا جذريًا في مفاهيم التعاملات المالية، وذلك مع بروز العملات الرقمية كأحد أبرز التحديات والفرص في آنٍ واحد، وهي نسخة رقمية من العملة المحلية الرسمية للدولة (مثل الجنيه، الدولار، اليورو، وغيرهم)، ويقوم بإنشائها وتصديرها البنك المركزي للدولة وهي مدعومة بالكامل من الدولة، والهدف منها هو تحديث النظام النقدي، وتسهيل المعاملات الرقمية، وزيادة الشفافية، وبينما تسعى دول العالم إلى مواكبة هذا التحول، برز الصراع الاقتصادي الرقمي بين القوى الكبرى المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية والصين، ويأتي هذا المقال لتسليط الضوء على القرار الأمريكي بحظر الدولار الرقمي وتبعاته، مقابل التوسع الصيني المذهل في نشر اليوان الرقمي، مع التركيز على الآثار الاقتصادية العالمية لهذا التحول، واستعراض موازين القوى الجديدة التي قد تعيد رسم خريطة الاقتصاد الدولي خلال السنوات القادمة.

القرار الأمريكي بحظر الدولار الرقمي وتبعاته

قام الرئيس دونالد ترامب في 23 يناير 2025 بإصدار قرار يحظر على كافة المؤسسات الأمريكية إنتاج أو استخدام أو تبادل الدولار الأمريكي والعملات الرقمية للبنوك المركزية المختلفة، وكان ذلك القرار هو أمرًا تنفيذيًا إجباريًا بعنوان “تعزيز القيادة الأمريكية في التكنولوجيا المالية الرقمية”.

وكان ترامب يرى وجوب ذلك الحظر لمنع تهديد الاستقرار المالي الحالي للولايات المتحدة وخصوصيتها الفردية وسيادتها، وقد تم تنفيذ الأمر وإصداره من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والذي كان أيضًا حذرًا تجاه إصدار البنك المركزي الأمريكي عملة رقمية خاصة به، وذلك لما يحمله الأمر من مخاطرات عديدة تهدد الاستقرار المالي الأمريكي

هذا القرار أيضًا يعود إلى تأخر بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي في إصدار العملة الرقمية وذلك لكونه استغرق وقتًا طويلًا في وضع الخطة وتحديد كافة الأخطار والتهديدات المحتملة خصوصًا بوجود قوى منافسة تنتظر أي خطأ من الولايات المتحدة في هذا الأمر للتفوق عليها في تجارة العملات الرقمية، وكذلك خوفًا من أن إصدار عملة رقمية للبنك المركزي قد يؤثر سلبًا في قيمة الدولار عالميًا وبالتالي تهديد السيادة المالية الأمريكية وتهديد أمن الاقتصاد الأمريكي.

ويرى بعض المحللين أن الأمر يرتبط بمحاولة المسئولين بالحكومة الأمريكية بتأمين الدولار الأمريكي ومنعه من التزعزع، حتى أن مجلس النواب الأمريكي قد أصدر قرارًا سابقًا على قرار ترامب وهذا في مايو 2024 بمنع بنك الاحتياط الفيدرالى من إصدار أي عملات رقمية للدولار الأمريكي، ومع ذلك فقد رفض مجلس الشيوخ هذا الأمر، ويحتمل أن هذا الرفض يرجع لترجيحهم أن منع إصدار دولار رقمي سيؤدي لتأخر الولايات المتحدة عن موكب إصدار العملات الرقمية الذي بدأت فيه أوروبا والصين بتحقيق بداية جيدة للغاية

بالطبع قرار ترامب قد أعطى فرصة للمنافسين من القوى الأوروبية والصين من استباق الولايات المتحدة وترقية عملاتهم الرقمية في سوق العملات الرقمية العالمي بين بنوكهم المركزية خاصة لما يملكه هذا التفوق من تأثير كبير في الأمن الاقتصادي والسوق الاقتصادي العالمي وتغيير نظم تبادل وتجارة العملات عن ذي قبل إلى مرحلة جديدة كليًا.

وقد أصدر المجلس الأطلسي تقريرًا يوضح عدد الدول الحالية التي تجري الأبحاث والتجارب حول إنشاء عملات رقمية لبنوكها المركزية، حيث كشف أنه بحلول سبتمبر 2024 كانت هناك حوالي 134 دولة تقوم بإجراء الأبحاث حول العملات الرقمية، ومنها حوالي 66 دولة بدأت بالبحث في المرحلة التجريبية، ومن ثَمّ من دول مجموعة العشرين G20 هناك 13 دولة بدأت المرحلة التجريبية لإصدار العملة واختبارها بالفعل ومنها: الصين، وروسيا، وتركيا، وأستراليا، والهند، واليابان، والبرازيل، وهناك أيضًا دول أخرى بدأت بالفعل بإصدارها أو على وشك البدء بإصدارها مثل: نيجيريا، والسويد، وجزر البهاما، وجامايكا، والإمارات العربية المتحدة، غير أن البنك المركزي الأوروبي قد أصبح الآن في مرحلة التحضير لليورو الرقمي وأحرز تقدمًا كبيرًا نحو ذلك

التفوق الصيني على الولايات المتحدة في مجال العملات الرقمية

بالعودة للوراء قليلًا قبل القرار الأمريكي بحظر الدولار الرقمي، وبعد أبحاث وتجارب عديدة بدأت بها الصين منذ عام 2014، تم إطلاق اليوان الرقمي للصين (e-CNY) كأول إطلاق تجريبي دولي للعملة الجديدة وكان ذلك بأولمبياد بكين الشتوي عام 2022، حيث تم استخدامه من قِبل العديد من الزوار والأجانب والرياضيين من مختلف أنحاء العالم خلال دورة الألعاب الأولمبية، وتعد كأول مرة يُتاح فيها لغير المواطنين الصينيين استخدام عملة جديدة للبنك المركزي الصيني، حيث بلغت المعاملات اليومية من هذه العملة الجديدة عدة ملايين من اليوان؛ مما يعكس الاهتمام الكبير من قبل المستخدمين الدوليين وذلك بدون حتى إعلان رسمي عن الإطلاق الكامل للعملة من قبل الحكومة الصينية.

ووفق دراسة أجراها متخصصون بالاقتصاد الصيني بجامعة ستانفورد، فإن اليوان الصيني بالفعل بدأ بالانتشار الواسع بين العديد من المستخدمين داخل وخارج الصين، حيث بلغ المستخدمون نحو 90% من المواطنين داخل المدن الصينية، وذلك بواسطة منصات الدفع الشهيرة لليوان الصيني وهي: WeChat Pay وAlipay، هذا غير خدمات الدفع خارج الصين عبر الحدود والتي أنشأها بنك الشعب الصيني ( البنك المركزي الصيني) حيث يمكن للمشتري من أي مكان أن يدخل على سبيل المثال إلى صفحة متجر في هونج كونج ويدفع المبلغ باليوان الرقمي من محفظته الرقمية ليصل إلى البائع بالقيمة المساوية نفسها من الدولار الهونج كونجي، كما أنها أتاحت للمواطنين ببساطة إنشاء محافظ إلكترونية لليوان الرقمي دون الحاجة إلى حساب بنكي لاستخدامها وبالطريقة نفسها مع الأجانب حيث يمكنهم إنشاء محافظ إلكترونية لليوان الرقمي بأرقام هواتفهم المحمولة الأجنبية

كما أنشأت الصين نظام دفع دولي بواسطة بنك الشعب الصيني يُدعى” CIPS” وهو يستخدم في التعامل مع البنوك المختلفة من دول أخرى، ويتسم بحماية أفضل وسرعة تحويل للمدفوعات أسرع من نظام دفع “SWIFT” الذي تسيطر عليه الدول الغربية، فنظام SWIFT يستخدم تكنولوجيا بطيئة وهدامة، حيث تحتاج المعاملات المالية الدولية عبر النظام من 3 إلى 5 أيام للموافقة عليها، بينما نظام الدفع الصيني الجديد، فهو يحتاج 7 ثوانٍ فقط للموافقة على التبادلات مع خفض رسوم المعاملات إلى 98 بالمئة.

 

وبالعودة للوقت الحالي، بعد قرار حظر إصدار الدولار الرقمي، فإن الصين يمكنها الآن تحقيق هيمنة أشمل بكثير والتمكن من مواجهة فرض الرسوم الجمركية المبالغ فيه من قبل ترامب والتي وصلت الآن إلى 245% من قيمة السلع المستوردة من الولايات المتحدة

كذلك يمكن إرجاع هذه العقوبات والقيود الشديدة إلى ما أحرزته الصين بالفعل في هذا المجال والذي بالتأكيد على الحرب الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة، فوفقًا لآخر تصريحات بان كونغ شنغ المحافظ الحالي لبنك الشعب الصيني فإن المعاملات باستخدام اليوان الرقمي بلغت نحو 7.3 مليارات يوان ( أي ما يعادل نحو تريليون و830 مليون دولار أمريكى ) وذلك في يوليو 2024؛ مما يعكس حالة التوتر الشديد التي تعاني منها الولايات المتحدة أمام التقدم والتوسع الملحوظ لليوان الصيني وتهديده للأمن الاقتصادي والسيادة الدولارية للدولار الأمريكي؛ حيث أصبح هناك بدائل رقمية جديدة تحل بدلًا منه

وقد أوضح تقرير يخص مركز الأمن الأمريكي الجديد منذ عام 2021 أن اليوان الرقمي يتيح للحكومة الشيوعية الصينية التوصل لكافة معلومات مستخدمي العملة وتحركاتهم المختلفة وأنشطة تبادلهم للعملة بالموقع والوقت والتاريخ لأن نظام تبادل اليوان الرقمي عكس باقي الأنظمة الأخرى؛ حيث يجب أن تمر الحكومة بعدد من البنوك والمؤسسات المسئولة عن تبادل ونقل المدفوعات بالعملة، أما هنا فالمعلومات بأكملها تقع بيد الحزب الشيوعي الصيني وبالطبع بما أن للعملة استخدامًا دوليًا فستتمكن الصين من الوصول إلى بيانات كافة المستخدمين وتمثل تهديدًا للحكومات المختلفة ورغم هذا فإن الأمر لم يتم تأكيده بعد، ومع ذلك فما سبق هو سبب كافٍ ليتسبب بالهلع للحكومة الأمريكية وهو ما يبرر التصرفات غير المنطقية تجاه الصين بالفترة الحالية

تأثير اليوان الرقمي في الأمن الاقتصادي الأمريكي والعالمي

إن التأثير الأوضح لهذه العملة الجديدة على الاستقرار الاقتصادي العالمي ينعكس في محاولة إزاحة الدولار عن رأس الهرم واقتراب نهاية السيادة الدولارية للولايات المتحدة كما يراها العديد من المحللين الاقتصاديين.

والخطر الفعلي لذلك ينعكس في الإمكانات والقدرات التي يمتلكها هذا اليوان الرقمي، وتتمثل في الالتفاف والتنصل من القيود والعقوبات الاقتصادية المفروضة على الصين وحلفائها بواسطة الولايات المتحدة وبقية القوى الغربية الأخرى، وعلى سبيل المثال فهو يقدم حلًا جيدًا لهذه الدول مثل الصين وروسيا وإيران لتتمكن من إجراء العديد من المعاملات دون إشراف أمريكي وذلك لقدرة الصين على نقل اليوان داخل مسارات وشبكات عالية السرعة والحماية بواسطة تقنيات الـ “Blockchain” والتي تمنع تمامًا أي محاولات لاختراق أو مراقبة مسارات تحرك العملة، غير أن هناك بالفعل 6 دول أخرى من دول رابطة جنوب شرق آسيا بدأت بتشكيل احتياطي نقدي من اليوان الرقمي ومنها: سنغافورة، وماليزيا، وهي قوى اقتصادية كبيرة على المستوى الدولى، بالإضافة إلى تايلاند التي تمكنت من إتمام أو عملية تجارة نفطية لها باليوان الرقمي بدلًا من الدولار

وبالنظر لحجم التسويات بين دول الرابطة عبر الحدود فقد بلغت نحو 5.8 تريليونات يوان رقمي؛ مما يعكس ازديادها بنسبة 120% عن عام 2021؛ حيث كان اليوان في أول أيامه بالسوق الآسيوي، وهي بالواقع زيادة مذهلة لعملة جديدة جاءت لتنافس عملة الدولار التي سيطرت على اقتصاد العالم بما فيه الاقتصاد الآسيوى.

كذلك تطوير الصين وتعزيزها لشبكات الدفع الرقمية لليوان قد عززت من تحقيق تكامل استراتيجي أكبر للعملة، وقيام الصين بإنشاء مشروع جديد على غرار مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تضم حوالى 140 دولة، وهو مشروع رقمي يهدف لإنشاء ما أسمته الصين بـ “طريق الحرير الرقمي”، لدمج نظم دفع اليوان الرقمي مع الأقمار الصناعية والاتصالات الكمومية المختلفة لإنشاء مسارات تحويل فائقة للعملة وعالية السرعة لضمان تدفق العملة بأكثر الطرق أمانًا، بالتالي فهي بذلك قد أسست بنية تجارية تحتية متكاملة لتعزيز الكفاءة الاقتصادية بنسبة 400% وفق أحد التقارير الاقتصادية

بالتالي ما تقوم به الصين سُيحدث تحولًا هائلًا وجذريًا في توازن القوة الاقتصادية مع الولايات المتحدة والقوى الغربية الأوروبية، والتي بعضها بالفعل بدأ باستخدام الدفع باليوان الرقمي في تسوية تكاليف الشحن بالقطب الشمالي، غير أنه مكَّن تجار الطاقة بالشرق الأوسط من خفض تكاليف التسويات بنسبة 75% لسهولة نظام الدفع الصيني الجديد لليوان الرقمي، فيرى بعض المحللين أن الأمور إذا استمرت بالتطور على هذا النحو، وظلت أوروبا والولايات المتحدة منشغلتين بالتأكد والتحقق وإجراء النقاشات حول أطر العملات الرقمية وعدم استعدادهم الحالي لهذه الثورة، ستصبح سيادة الدولار وقيادة الولايات المتحدة للاقتصاد العالمي في غبار الماضي ودخول مرحلة جديدة كليًا عن النظام الاقتصادي العالمي الحالي

وختامًا، يتضح من خلال العرض السابق أن العملات الرقمية لم تعد مجرد وسيلة دفع حديثة، بل تحوّلت إلى أداة استراتيجية بيد الدول الكبرى لإعادة تشكيل النفوذ الاقتصادى العالمي. ففي الوقت الذي اختارت فيه الولايات المتحدة التريث بل والحظر المؤقت للعملة الرقمية الوطنية، استطاعت الصين استغلال الفرصة لفرض اليوان الرقمي كبديل فاعل وواقعي في كثير من المعاملات الدولية. ويشير هذا إلى احتمالية نشوء نظام اقتصادي متعدد الأقطاب، قد تتراجع فيه الهيمنة التقليدية للدولار لصالح عملات رقمية أخرى مدعومة بتكنولوجيا متطورة واستراتيجيات توسعية. ولعل المستقبل القريب سيحمل في طياته مزيدًا من التحديات والتغيرات التي ستعيد تشكيل قواعد اللعبة الاقتصادية العالمية







 

 

المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

الكاتب : محمد عبد الفتاح

التاريخ : 7/5/2025

-----------------------------------------------------

المصدر: موقع بيتكوين العرب

الكاتب : شوقي دليمي

التاريخ : 12/5/2025

المقالات الأخيرة