الدبلوماسية هي طريقة ووسيلة اتصال الدول مع بعضها ببعض منذ انتهاء عصر الممالك والأمبراطوريات القديمة التي كانت في عزلة عن جيرانها بعيدًا عن النزاعات والحروب، ومع ظهور الدول القومية الحديثة ظهرت الحاجة للدبلوماسية كأسلوب وطريقة تتمكن من خلالها الدول في إنشاء علاقات وروابط سياسية واقتصادية وثقافية لتحقيق التعاون في مجالات مختلفة وإمكانية كل طرف من الاستفادة من الآخر في تحقيق أهدافه، وتمارس الدبلوماسية بالصورة المعتادة من خلال المؤسسات الدبلوماسية بكل دولة المسئولة عن العلاقات الخارجية مع دول العالم الأخرى وإرسال البعثات الدبلوماسية والسفراء للدول المجاورة والدول الأخرى لإنشاء الروابط والحفاظ على العلاقات التعاونية والسلمية.
لكن بعد التقدم التكنولوجي الهائل الآن بدأت الدبلوماسية تُمارس كذلك بطريقة افتراضية من خلال الفضاء السيبراني الحديث بعد تعقد العلاقات والاتصالات بين الدول إلى الحد الذي أصبح يتطلب تأمين شبكات الاتصالات والفضاء السيبراني بين الدول باعتبار أنه سلاح ذو حدين يمكن استخدامه في الحروب والنزاعات وتهديد الأمن القومى للدول، وكذلك وسيلة يُمكن للتنظيمات الإجرامية الدولية استخدامها لتهديد مصالح الشركات العالمية والدول، ولذلك ظهرت الحاجة إلى الدبلوماسية السيبرانية كي تتمكن الدول من تأمين فضاءاتها السيبرانية مع بالتعاون مع الدول الأخرى وإنشاء علاقات دبلوماسية سيبرانية بالفضاء السيبراني العالمي.
مفهوم الدبلوماسية السيبرانية
تُعَرَّف بأنها: “أسلوب محدد تنتهجه الفواعل الدولية في تعاملها مع المشكلات المختلفة التي تنشأ في الفضاء السيبراني، والتي تتراوح ما بين قضايا إدارة الإنترنت ومعالجة الجرائم السيبرانية، إلى حماية البنية التحتية الحيوية، إلى قضايا التجسس السيبراني والصراع السيبراني، بالإضافة إلى سلوك الدولة المسئول في الفضاء السيبراني”.
أي نستنتج من المفهوم أن الدبلوماسية السيبرانية هي طريقة لإدارة العلاقات المختلفة بين الدول بالفضاء السيبراني لمواجهة مختلف القضايا والتهديدات السيبرانية الناتجة عن الاستخدام الدولي للفضاء السيبراني بمختلف الطرق والأساليب.
أي أن الدبلوماسية الرقمية يمكن اعتبارها بمثابة دعوة مفتوحة للدول ومختلف الفاعلين الحكوميين من أجل تحقيق أهداف السياسة الخارجية للفاعلين ومواجهة القضايا الأمنية المرتبطة بذلك، حيث إنها تهدف إلى حوكمة الفضاء السيبراني وإدارة كل ما يحدث بهذا الفضاء من خلال الأساليب والوسائل الدبلوماسية الحديثة.
ظهور الدبلوماسية السيبرانية والخطوات نحو التطبيق
مفهوم الدبلوماسية السيبرانية كما سبقت الإشارة ينطوي على جوانب وأبعاد عديدة أهمها إدارة المصالح ومواجهة الأخطار الناتجة عن الفضاء السيبراني وتهديداته المحتملة والفاعلين به، وكذلك محاولات القوى الكبرى المتنافسة السيطرة عليه كمورد أساسي بجانب الفضاء الخارجي وأعالي البحار وغيرها من الموارد ذات الأهمية الكبيرة للقوى العالمية المتنافسة على الساحة الدولية الآن بالأخص بين الولايات المتحدة والصين كأكبر كتلتين اقتصاديتين بالعالم، كذلك إدارة المصالح المشتركة والسعي لتحقيق أهداف عالمية أخرى للتعاون الدولي في هذا المجال الجديد بالعلاقات الدولية.
يرجع أساس ظهور المفهوم إلى عام 2008؛ حيث أسست الولايات المتحدة “الاستراتيجية الدولية للفضاء الإلكتروني” كأول وثيقة في العالم تركز على الفضاء السيبراني وقضاياه المختلفة بما فيها من مصالح وتهديدات، وبعد ذلك قامت الأمم المتحدة بعدد من الاجتماعات بين مجموعات من الخبراء الحكوميين بالأمم المتحدة لمواجهة التهديدات الجديدة للفضاء السيبراني ونتج عنها تشكيل لجنة خاصة من الخبراء الحكوميين بالأمم المتحدة وذلك وفق قرار الجمعية العامة (24\66 ) عام 2010 وذلك بعد أن اقترحت روسيا بمثل هذا الحل لمواجهة تزايد أخطار الفضاء السيبراني والشبكات العالمية.
بعد ذلك في 4 إبريل 2022 قامت الولايات المتحدة بإنشاء مكتب للأمن السيبراني والسياسة الرقمية بوزارة الخارجية الأمريكية كأول مكتب في العالم يختص بمواجهة الأخطار والتهديدات السيبرانية وتطبيق استراتيجيات وسياسات التعاون الدولى في الفضاء السيبراني، وتحقيق المشاركة الدبلوماسية الفاعلة بين مختلف الفاعلين الدوليين والحكوميين لتطوير الفضاء السيبراني وتأمينه من الأخطار الداخلية والخارجية المختلفة.
على الناحية الأخرى قام الإتحاد الأوروبي بالتركيز بشدة على ما يخص الفضاء السيبراني ومعالجة تهديداته إلى درجة تعيين ما يشبه الممثل الإلكتروني لكافة قضايا الفضاء السيبراني وعرضها وتحديد موقفه منها على المستوى العالمي، وبين عامي 2015 و2017 سعى الاتحاد لتجديد سياسات وأهداف واضحة للدبلوماسية السيبرانية ووسائل ومجموعة أدوات لممارستها وتطبيق أهدافها، ثم في عام 2019 قام الاتحاد بإنشاء إطار عام للعقوبات، بعد حلول عام 2020 نشرت الطبعة الثانية من استراتيجية الاتحاد الأوروبي في ممارسة الدبلوماسية السيبرانية من أجل التركيز على “السيادة التكنولوجية والقيادة وبناء الشراكات الدولية” بالفضاء السيبراني والدبلوماسية السيبرانية، وكانت الاستراتيجية الأولى نشرت في 2013.
عناصر إنشاء استراتيجية سيبرانية شاملة
لإنشاء وتطبيق استراتيجية سيبرانية شاملة، فالأمر يتطلب الاعتماد على مجموعة من العناصر المترابطة التي تهدف إلى مواجهة التهديدات السيبرانية الحديثة والمعقدة، وأهمها:
- تقييم الأخطار واستخدام معلومات التهديدات: عبر تقييم مكثف للأخطار واستخدام معلومات التهديد، يمكن التعرف على نقاط الضعف والاستعداد للتغيرات المستمرة في التهديدات السيبرانية.
- وضع سياسة وإطار عمل وطني قوي للأمن السيبراني:هذا يوفر رؤية واستراتيجية واضحة تركز على حماية الأصول الأساسية.
- التعاون بين القطاعين العام والخاص: حيث يسهم التعاون بين القطاعات في تعزيز تبادل المعلومات، والموارد والخبرات، ويؤدي إلى حماية أكثر فاعلية للبنية التحتية الحرجة مثل قطاع الطاقة والقطاع المالي والصحي وقطاع النقل بأنواعه.
- استراتيجية الاستجابة للحوادث وإدارة الأزمات: أي وجود خطة واضحة للاستجابة السريعة للتهديدات والعمل على التعافي من الهجمات السيبرانية للتقليل من التأثير السلبي لهذه الحوادث.
- بناء القدرات والتدريب: فمن خلال تدريب الموظفين وإعدادهم لمواجهة التهديدات وتحويلهم إلى كوادر وكفاءات، يمكن تعزيز المهارات الفنية التي تساعد في تعزيز الأمن السيبراني على مستوى الحكومة والشركات.
- إطار قانوني وتنظيمي شامل: حيث إن تغطية مختلف الجرائم السيبرانية وتحليل جوانبها المختلفة، وحماية البيانات والخصوصية، توفر الأساس القانوني للحد من الجرائم الإلكترونية وحماية حقوق الأفراد ومعاقبة مرتكبيها.
- التعاون الدولي: حيث يعزز التعاون الدولي من قدرة المجتمع الدولي على مواجهة التهديدات السيبرانية بفاعلية أكبر من خلال تبادل المعلومات والخبرات وتحقيق التكامل بين أعضاء المجتمع الدولي.
- التوعية العامة: تثقيف المجتمع حول التهديدات السيبرانية يعزز من وعي المواطنين ويقلل من احتمالية تعرضهم للهجمات أو تسرب معلوماتهم الخاصة بما يعرضهم للخطر.
- التقييم والتحسين المستمر: لضمان استمرار ملاءمة وفاعلية الاستراتيجية مع تطور التهديدات والتكنولوجيا الحديثة.
- الاعتماد على التكنولوجيا المتقدمة: استخدام الذكاء الاصطناعي وتجميع وتحليل البيانات يُسهم في تحسين الأمن السيبراني ويعزز من القدرات الدفاعية ضد الهجمات المتقدمة.
هذه العناصر تشكل الأساس لاستراتيجية سيبرانية شاملة وفاعلة، ومن خلال دمج هذه العناصر، يمكن للدول تحسين دفاعاتها السيبرانية وتعزيز مرونة البنية الرقمية بشكل عام.
الاستراتيجية السيبرانية الوطنية الأمريكية 2023
تسعى الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني 2023 بالولايات المتحدة إلى مواجهة كافة التهديدات والتحديات في مجال الأمن السيبراني والعمل على تطوير وحماية الفضاء السيبراني من أي تهديدات محتملة وكذلك تطوير مختلف المرافق التكنولوجية المتاحة لتحقيق أهداف الدولة السيبرانية والعمل على إنشاء بنية تحتية حيوية آمنة من أي أخطار، تهديدات، أعمال تخريب سيبرانية محتملة لحفظ أمن الشعب الأمريكي.
وتقوم الاستراتيجية على خمس ركائز أساسية:
- المرونة: أي القدرة على مواجهة التحديات والتهديدات المختلفة والصمود أمامها والعمل على التعافي منها بأقل الأضرار الممكنة.
- الوقاية: أي العمل على تحقيق الحماية من أي تهديدات سيبرانية.
- الكشف: العمل على كشف وتحديد التهديدات السيبرانية في أسرع وقت ممكن.
- الاستجابة: العمل على مواجهة التهديدات المختلفة والاستجابة لها بكفاءة وفاعلية عالية.
- التخفيف: العمل على تخفيف حدة التهديدات السيبرانية والحد من نتائجها.
وبالطبع فنجاح الاستراتيجية قائم على تطبيق هذه الركائز بتنسيق وفاعلية عاليين، وكذلك كفاءة التعاون والتنسيق بين جميع الجهات الفاعلة، وكذلك الجهات ذات المصالح الخاصة كالجماعات المختلفة والقطاع الخاص، أي ضرورة تنسيق التعاون بين القطاعين العام والخاص والمنظمات غير الحكومية بالدولة ومنظمات المجتمع المدني بما يصب في تحقيق مصلحة الدولة وتأمينها وتأمين المواطنين والبنية الحيوية للدولة ومصالح الأطراف المتعاونين في تطبيق الاستراتيجية الأمنية.
خاتمة: في ضوء التعريف السابق لمفهوم الأمن السيبراني والممارسات المختلفة الناتجة عنه وفي ضوء تعدد الفاعلين الدوليين ومن دون الدول وظهور التنظيمات الإجرامية والشركات العالمية متعددة الجنسيات ومختلف المنظمات الدولية الحكومية الأخرى، والذي بدوره يجعل الفضاء السيبراني ساحة مفتوحة لعدد غير محدود من الممارسات والعلاقات والتنافسات بين القوى وكذلك ساحة لممارسة الإرهاب الإلكتروني والأعمال الإجرامية، تتضح الأهمية لضرورة التوصل إلى طريقة جديدة لحوكمة الشبكات والفضاء السيبراني بما يمنع أي تهديد محتمل للدول والمواطنين الأفراد وذلك من خلال تطبيق آليات الدبلوماسية السيبرانية التي تحد من الأخطار وتعظم الاستفادة الراجعة من تطبيقها لتحقيق مصالح الأطراف الدوليين المتعاونين في تطبيق الاستراتيجيات الأمنية للفضاء السيبراني من ناحية، ومن ناحية أخرى تطوير وسائل الحماية والوقاية من الأضرار التي يمكن أن تتعرض لها البنية التحتية الحيوية لمختلف الدول، وهو ما يتطلب التنسيق الفعال للتعاون بين دول العالم.
المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
الكاتب : محمد عبد الفتاح
التاريخ : 11/5/2025
-----------------------------------------------------------
المصدر: صحيفة الشروق
التاريخ : 11/8/2024