الخارطة المستقبلية لتنافسية الدول على جذب الاستثمارات
فرع بنغازي

تسعى الدول لزيادة قدرتها التنافسية على جذب الاستثمارات، ولاسيما (الاستثمارات الأجنبية المباشرة)،والتي تعني قيام مستثمر أجنبي بممارسة نشاط اقتصادي معين في دولة أخرى عن طريق تملكه لجزء من مؤسسة اقتصادية أو إنشائها. وتظهر الحاجة الملحة إلى جذب الاستثمارات الأجنبية؛ نظراً لمساهمتها الفعالة في زيادة النمو الاقتصادي الوطني، وما ينتج عنها من زيادة فرص العمل وتحسين مستويات الرفاهة الاقتصادية، فضلاً عن نقل التقدم التكنولوجي والعوامل الداعمة للابتكار إلى الدولة التي سيتم الاستثمار بها.

في خضم رصد الاتجاهات الاستثمارية الدولية، اهتمت العديد من الجهات المعنية بإصدار مؤشرات لقياس مدى تنافسية الدول على جذب الاستثمارات الأجنبية؛ لذا يقيم تقرير سنوي لمعهد إيفو الألماني للبحوث الاقتصادية مدى تنافسية الدول على جذب الاستثمارات في عام 2024، من خلال مؤشر يرصد تباينات تلك الجاذبية والعوامل المثبطة والمحفزة للتنافسية، مع التركيز على تطور جاذبية الاقتصاد الألماني ومناقشة أسباب التراجع الراهن.

منهجية القياس: 

اعتمدت نتائج التقرير الاقتصادي لتنافسية الدول على جذب الاستثمارات على استطلاع رأي لمعهد إيفو في ميونيخ، ومعهد السياسة الاقتصادية السويسرية (IWP) مع نحو 8آلاف خبير اقتصادي من 130 دولة حول العالم. يرمي الاستطلاع إلى جمع آراء الاقتصاديين حول تدابير السياسات الاقتصادية والأوضاع السياسية القائمة في بلدانهم، مع الاعتناء بآليات التوقعات والتقديرات المستقبلية للعديد من المؤشرات الاقتصادية مثل: معدلات النمو الاقتصادي، التضخم المتوقع، جودة البنية التحتية، اللوائح التنظيمية القائمة، الأنظمة الضريبية، أسعار موارد الطاقةفي الدول موضع البحث.

ولمراعاة دقة نتائج الاستطلاع الذي جرى في الربع الأخير من عام 2023، تم اختيار الخبراء حسب معايير محددة لضمان كفاءتهم مثل حصول أغلبهم على درجة الدكتوراه في الاقتصاد، بالإضافة إلى مدى مشاركتهم السياسية في تشكيل الوعي العام في بلدانهم، والذي تم قياسه بواسطة طرق كمية عدة مثل: الاستشهاد بأعمال المشاركين الأكاديمية من أوروبا في المتوسط نحو 4آلاف مرة حسب (Google Scholar). 

ووفقاً التقرير، يسهم 12 عاملاً رئيساً في تحفيز أو تثبيط عامل الجاذبية التنافسية للاستثمار، حيث كان يطلب من المشاركين في استطلاع الرأي اختيار أكثر ثلاثة عوامل إيجابية وسلبية تأثيراً في الجاذبية التنافسية للاستثمار في بلدانهم. واتفق 40% من الخبراء على العوائق البيروقراطية، كأبرز العوامل المثبطة للجاذبية للاستثمار، ثم جاء بعدها ارتفاع تكاليف العمل والضرائب، وكذا الاستقرار الأمني بنسبة 20%، ومن أبرز أسباب تلك العوائق نقص نسبة العمالة الماهرة، والأداء الضعيف للمؤسسات السياسية. أما بالنسبة للعوامل الإيجابية، فيتصدرها بنسبة 40% التعليم الناتج عن مضاعفة رأس المال البشري، بما يحتويه من خبرات ومعارف إنسانية تسهم في إثراء العملية الإنتاجية، يليه التحول الرقمي والبنية التحتية المواتية للاستثمار في المركز الثاني بنسبة 20% لكل منهما.

نتائج التقييم: 

يقيم تقرير معهد إيفو الألماني قدرة الدولة التنافسية بالنسبة للاستثمارات الوطنية والأجنبية على مقياس يتدرج من 0إلى 100. وبفحص نتائج تنافسية الدول بالنسبة لشركات الاستثمار الوطنية، أشار التقرير إلى أن دول قارة أمريكا الشمالية حلت أولاً بنسب تتراوح بين 80إلى 90%، وهو ما يمكن تقييمه بالجيد جداً، تليها أوروبا الغربية، وشرق وغرب آسيا، وأوقيانوسيا بنسب أقل قليلاً. أما الدول ذات الجاذبية التنافسية الفقيرة، فيقبع جزء كبير منها في القارة الإفريقية وشرق أوروبا وجنوب آسيا في الثلث الأدنى من مقياس التقييم، بينما تأتي منطقة وسط آسيا في المرتبة الأدنى أو الأخيرة، حيث لا تصل جاذبية الموقع هناك سوى إلى 20إلى 30 نقطة.

وتتباين نتائج تنافسية الدول لشركات الاستثمار الأجنبية نوعاً ما بالمقارنة بالاستثمارات الوطنية خاصة فيما يتعلق بالمناطق الأقل جاذبية، حيث تسجل مناطق غرب ووسط وجنوب إفريقيا جنباً إلى جنب مع وسط وجنوب آسيا أسوأ التقييمات. وبينما يتم تقييم القارة الإفريقية على أنها غير جذابة للشركات الدولية بشكل عام يوجد تحسن طفيف في شرق وشمال إفريقيا عن مثيلاتها في الغرب والوسط والجنوب. وعندما يتعلق الأمر بتقييم باقي مناطق العالم –باستثناء شرق أوروبا– فلا تظهر اختلافات كبيرة في جاذبية المواقع للشركات الدولية وفقاً للخبراء، إلا بالنسبة لأوروبا الغربية التي تحقق تفوقاً طفيفاً بمتوسط درجة جاذبية يتراوح بين 60 و70 نقطة للشركات الدولية.

ويعتبر الخبراء الإيطاليون والبريطانيون والمالطيين والشمال مقدونيون أن بلدانهم أقل جاذبية للشركات الدولية بمعدلات تتراوح بين 30 و40 نقطة. بينما يرى الخبراء في هولندا وسويسرا دولهم من أكثر المواقع المحققة للجاذبية التنافسية للشركات الوطنية والدولية على حد سواء، بمعدلات تتراوح بين 70 و80 نقطة.

مستقبل جاذبية الاستثمار: 

اهتم التقرير أيضاً برصد تطور مؤشر جاذبية الدول للاستثمار الأجنبي خلال السنوات العشر الأخيرة لتوفير نتائج يمكن الانطلاق منها نحو رسم رؤية حول الخريطة المستقبلية العالمية لمؤشر التنافسية، ومن أبرز تلك النتائج ما يلي:

1- تباين مؤشر جاذبية الدول للاستثمار خلال العقد الأخير: يرى غالبية الخبراء حدوث تدهور ملموس في المؤشر في جنوب وشرق آسيا وجنوب إفريقيا خلال العقد الأخير. أما على صعيد جنوب أوروبا وجنوب شرق آسيا، فشهد تطوراً إيجابياً بشكل كبير خلال تلك الفترة الزمنية. بينما يقيم الخبراء الوضع في غرب آسيا وشمال أوروبا بالتطور الإيجابي الطفيف، في حين تقبع بقية دول العالم في نطاق التطور السلبي الطفيف للمؤشر.

2- التغيرات المستقبلية لجاذبية الدول للاستثمار خلال العقد المقبل: تسود حالة من التفاؤل العالمي بشأن التحسيناتالمتوقع حدوثها لمؤشر جاذبية الدول للاستثمار في معظم بقاع العالم خلال العقد المقبل، حيث يتوقع الخبراء حدوث تطور كبير في مناطق أمريكا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي، وغرب وجنوب شرق آسيا، وأجزاء كبيرة من القارة الإفريقية، وكذلك جنوب أوروبا. بينما يرون في المقابل أن التطور سيكون طفيفاً في مناطق شمال إفريقيا وجنوب آسيا وأمريكا الجنوبية، في حين تتعادل آراء الخبراء بشكل أقرب للتفاؤل بشأن المؤشر في مناطق كغرب وشرق أوروبا، وأمريكا الشمالية وآسيا الوسطى، بينما يأتي الاستثناء الوحيد بشأن الرؤية السلبية للمؤشر في منطقة شرق آسيا بسبب توقع حدوث تطور سلبي طفيف. 

أما خبراء الولايات المتحدة الأمريكية، فإنهم ينظرون إلى المستقبل بشكل منقسم نسبياً، حيث يتوقع نحو 29% تحسناً في مؤشر الجاذبية للاستثمار، ويقابلهم تقريباً 28% من الخبراء الذين يتوقعون حدوث تدهور. في حين يعتقد 42% أن جاذبية الموقع الاقتصادي للولايات المتحدة ستظل كما هي خلال السنوات العشر المقبلة. ويرجع الخبراء أسباب التحسن أو التدهور خلال الفترات الزمنية الأكثر طولاً أيضاً إلى عوامل البيروقراطية ورأس المال البشري والتحول الرقمي المشار لها سلفاً.

الحالة الألمانية: 

حظيت ألمانيا لفترة لا بأس بها من التطور الاقتصادي، ولاسيما بعد تحقيق الوحدة بين الشرق والغرب، والتي كانت بداية للعديد من الإصلاحات الاقتصادية في أوائل العقد الأول للقرن الحادي والعشرين، حيث تلتها فترة اقتصادية ذهبية للعملاق الألماني؛ الأمر الذي انعكس بالضرورة على مؤشر الجاذبية للاستثمار آنذاك.

لكن اليوم لم يعد الحال على ما كان عليه، حيث أصيب الاقتصاد الألماني بركود اقتصادي حتى النصف الأول من عام 2023، ولم يتغير الحال كثيراً حتى نهاية ذلك العام؛ الأمر الذي لم يأت مفاجئاً؛ بل أتى مصدقاً لتوقعات صندوق النقد الدولي الذي توقع بأن ألمانيا هي الدولة الوحيدة من ذوات الاقتصاد المتقدم التي ستشهد انكماشاً اقتصادياً عام 2023.

ووفقاً للظروف الاقتصادية، يرى الخبراء الألمان المشاركون في استطلاع الرأي أن ألمانيا ما زالت تحتفظ بمؤشر إيجابي للجاذبية فيما يتعلق بالشركات الوطنية، وبنسبة تتراوح بين 60 و70 نقطة، بينما يأتي تقييمهم للجاذبية للشركات الدولية أسوأ بشكل ملحوظ، حيث تتراوح تقييماتهم بين 40 و50 نقطة، ووفقاً لآراء الخبراء تُعد ألمانيا غير جذابة تماماً للشركات الدولية مثل أيسلندا ولاتفيا وألبانيا.

وبالنسبة للعوامل المؤثرة في مؤشر الجاذبية للاستثمار، فقد قام 70% بالتصويت على اللوائح أو البيروقراطية كأول العوامل السلبية المثبطة، يليه عدم التحول الرقمي والمشكلات المتعلقة بالطاقة وعدم توافر العمالة الماهرة بنسبة 50%. تليهم مشكلات البنية التحتية والنظام الضريبي بنسبة 20%. أما على صعيد العوامل الإيجابية، فيحتل عامل التعليم ورأس المال البشري مكانة متميزة في ألمانيا، بينما الأمر اللافت أن 60% من الخبراء الألمان يرون أن المؤسسات الألمانية السياسية تُعد ميزة داعمة للمؤشر. وبفارق كبير عن العنصرين السابقين، يحتل توافر رأس المال وتوافر عنصر الأمان في بيئة العمل المرتبتين الثالثة والرابعة بين العوامل الإيجابية الأكثر ذكراً.

وعند التطرق لتطور المؤشر خلال السنوات العشر الماضية تسود نظرة قاتمة للخبراء، حيث يرى الغالبية العظمى (72%) أن مؤشر جاذبية ألمانيا قد تدهور في العقد الأخير، ويصف 6.7% منهم ذلك التدهور بـ التدهور الكبير"؛ أي أن تقييم الخبراء الألمان يُعد شديد السلبية بشكل ملحوظ مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى. ولا تختلف هذه النظرة التشاؤمية عن مستقبل المؤشر، حيث يتوقع 48.3% تزايد التدهور في السنوات العشر المقبلة، من بينهم، 3.3% يتوقعون تدهوراً كبيراً، في المقابل يتوقع فقط 15% من الخبراء أن تصبح ألمانيا أكثر جذباً في المنافسة على الاستثمار.  

ختاماً، يوصي التقرير بأنه يجب على الدول العمل على تفادي حدوث العوامل المثبطة لمؤشر تنافسية الدول لجذب الاستثمارات مثل البيروقراطية وتعقد النظام الضريبي، والمسارعة لاستغلال العوامل الداعمة مثل التحول الرقمي ودعم رأس المال البشري. 

 

المراجع

_ هبة محى، 15/3/2025، الخارطة المستقبلية لتنافس الدول على جذب الاستثمارات، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.

_جريمي رتراند،وجوزيف ليموين ،15.3.2024، جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة،Atlantic council.

 

المقالات الأخيرة