الجزء الأول:
مقدمة:
موضوع الأمن كان ولايزال محوراً للنقاش الوافر
بين الباحثين، وذلك بسبب تعقيده وتنوع الأبعاد والقيم والمدلولات المختلفة التي
يتضمنها، وقد جعل هذا التعدد من التصورات حول الأمن تحقيق الاتفاق على تعريف دقيق
له أمراً شديد الصعوبة، حتى يصل إلى حد الاستحالة في بعض الأحيان. يعزى هذا
التعقيد بشكل أساسي إلى وجود مجموعة متنوعة من المنظورات التي تستخدم لفهم
الأمن سوائ كانت أكاديمية أو عملية.
أهمية الدراسة:
تتجلى أهمية الموضوع والدراسة من خلال أهمية
موضوع الأمن في العلاقات الدولية والتي نوجزها فيما يلي:
1-كون الأمن مطلب الأفراد والجماعات والدول.
2- الأمن يظل دائماً قيد التغيير نتيجة لارتباطه
بما ينتج عن تفاعلات العلاقات الدولية، ولذلك كانت الحاجة ملحة لتتبع أهم النقاشات
المثارة حوله.
3- الأمن متغير محوري في الكثير من مجالات
العلاقات الدولية وتفاعلاتها.
4- الأمن مفهوم خلافي غير متفق عليه وهو بهذا
متعدد الزوايا التحليلية.
5- الأمن مستعصي على تقديم تعريف دقيق ما استوجب
البحث المستمر عن أكثر التعاريف انتماءا لظاهرة الأمن في العلاقات الدولية.
الهدف من الدراسة:
تستهدف الدراسة بلوغ الأهداف التالية:
-بحث حدود الانسجام بين التعاريف المقدمة للأمن
من طرف منظري الدراسات الأمنية.
-دراسة الموضوع من خلال سياقاته ومن تم تغيراته
المفهومية .
-بحث المؤشرات المؤدية لتغير المفهوم – الوحدات
المرجعية، التهديدات، القيم المركزية-
-رصد التغيرات اللاحقة بالمفهوم وبحث إمكانات
مواصلة التغير في المفهوم مستقبلاً بناءاً على المتغيرات اللصيقة بالمفهوم
والمتغيرات الدولية.
المطلب الأول: القراءة الإبستمولوجية لمفهوم
الأمن في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية
تتطلب معالجة مفهوم مهم الأمن، الذي يعد أحد
أكثر المفاهيم استخداماً في حقل العلاقات الدولية
سواء نظرياً أوممارساتياً، إعداداً
دقيقاً للمنهجية والأسس الواضحة للتحقق من تعريف المصطلح واستخداماته
للتعبير على الظواهر المراد توصيفها به. وبعد ذلك ينبغي التركيز على السياقات
المختلفة له التي يتم توظيفها للدلالة والتعبير على ظواهر قد تنتمي إليه أو لا
تنتمي إليه.
ومن المفترض أن يؤدي هذا الأسلوب إلى إنتاج مفاهيم متفرعة للأمن
تنسجم مع تعدد السياقات التي تم إدراجه فيها، وكل هذا يقود ويؤسس لمنظورات جديدة
تعاملت مع مفهوم الأمن على أنه “جديد”، وهو الطرح الذي يعالج الأمن بطريقة لا
نمطية غير تقليدية تقترب أكثر من النهج الجديد للدراسات الأمنية انسجاماً مع ظهور
الأساليب الجديدة المعالجة للقضية الأمنية بشكل عام، والتي تتمحور أساساً حول موضوع” الأمن الجديد” The New Security“، التي نادت بها “مدرسة الأمن الموسع” The Broad Security School ” الداعية إلى معالجة مفهوم الأمن بطريقة لا
تقليدية تأخذ في الاعتبار العلاقة بين النظرية والممارسة في التعاطي مع مصطلح
الأمن وبين التركيب المفاهيمي الإبستمولوجي والسياسي له. يجب أيضاً أن نأخذ بعين
الاعتبار الأبعاد الأخلاقية القيمية المعيارية للأمن، وهو ما يستوجب الحديث عن
الدراسات النقدية في العلوم الاجتماعية عموماً؛ حيث تم صقل هذا المفهوم من خلال الانتقادات الموجهة
لنظرية العلاقات الدولية. كما يجب التركيز
أيضاً على مجموعة من المؤشرات التي تعطي توضيحاً وافياً له، وتجعله مفهوماً نقياً
غير مختلط بالشوائب التي قد تفرزها التفسيرات النظرية المقدمة لمختلف الظواهر
الدولية، حيث تكون المؤشرات المتحدث عنها على النحو التالي:
1-أن التحقق من مفهوم الأمن وممارساته وتطبيقاته
يجب أن يركز على سياقه
“Context “،
وهو ما يعني ضرورة تلقف خصوصية السياق الذي وضع ووظف فيه مما يتيح نحت مفهوم أقرب
للقبول يعبر في اتجاهين، الأول يركز على السياق ومعناه، والثاني يركز على المفهوم
في حد ذاته مجرداً عن سياقه؛ غير أن السياق هو الذي يقدم لنا المعاني المختلفة
للمفهوم هذا الأخير الذي يختلف باختلاف السياق الذي وظف فيه.
2-ضرورة الانتباه إلى أن هناك تعاريف مختلفة
للأمن انطلاقاً من وجود سياقات مختلفة.
3-البحث في إمكانية التوفيق بين الرؤى
التحليلية المتناقضة في فهم الأمن، حيث
تعتبره احدى الرؤى بأنه “مفهوم ثابت”،
بينما تعتبر الأخرى بأنه قابل للتغير بناءاً على السياقات المختلفة التي يكون فيها
بالرغم من وجود “استمرارية” لمفهوم واحد.
4-النظر في كيفية تغير التعاريف المقدمة للأمن،
هل كانت انطلاقاً من الممارسات أم من المعاني التي يؤول لها، وبمعنى أدق هل يكون
استقاء دلالة مفهوم الأمن من خلال معناه أو من خلال الفعل المرتبط بتطبيقات الأمن.
5- أيضاً من الضروري توضيح أن الأمن عادة ما يكون
مبنياً على معطيات مسبقة مهدت لوجوده، مرتبطة أساساً إما بالحاجة أو بالتهديد.
وبناء على ما سبق، فإن “السياق” و”البناء”
و”التغير” و”الاستمرار” ستكون بمثابة المؤشرات الخطية لمجمل التعاريف التي ستقدم
لمفهموم الأمن، إما داخل حقل نظريات العلاقات الدولية أو داخل حقل الدراسات
الأمنية، وعلى الرغم من هذا فإنه من الضروري التنبيه إلى أن الدراسات المقدمة حول
الأمن ستُظهر حتماً الاختلافات بين التعاريف المقدمة بشأنه، ومنه فإن التحليل
المنطقي الذي يقوم على أساس فحص وتتبع وتوضيح دلالات المفاهيم ومدى تجردها
ونقاوتها الدلالية باستخدام أدوات معينة ومعايير محددة بذاتها يفترض أن يقدم
مفهوماً يطمح إلى أن يكون صائباً ومطلقاً وتعميمياً وأيضاً دالاً على الظاهرة
المراد تسميتها
في هذا الصدد يحاجج الأستاذ “دافيد
بالدوين، David Baldwin” -على أن الأمن مفهوم لا يمكنه أن يكون مطلقاً
– أن فهم الأمن فهماً دقيقاً، وتقديم
تعريف محدد له هو في الحقيقة غير متاح إلا من خلال الفصل بين مضامينه النظرية
والسلوكات الناتجة عن الممارسة التطبيقية له، وكذا عدم بتره عن المفاهيم الأخرى
خاصة منها التي تنتمي لنفس الحقل المعرفي
في طرح مغاير ويكاد يكون مناقضاً يرى الأستاذ
“ميكائيل ديلان،Michael
Dillon ” أنه من الضروري البحث أولاً في إيتمولوجية
وجينالوجية مصطلح الأمن من خلال الخطاب الأمني وتوظيف مصطلحاته المستعملة ووضعها
في سياقها الذي وضعت فيه وعدم إخراجها عما وظفت من أجله، ومن ثمة تحديد معانيها
الحقيقية والمقصودة، ثانياً البحث في توظيف مصطلح الأمن واستعماله في الخطابات
المفاهيمية، وهنا يتفق “ديلان” مع “بالدوين ” في كون مفهوم الأمن مفهوما ذو معنى
مزدوج قد يوظف في سياق ما غير أن دلالته قد تفهم خارج هذا السياق.
إن المتابع لتطور المفهوم في العلاقات الدولية
والدراسات الأمنية خاصة يؤكد على أنه متعدد التعاريف التي سيقت بالتزامن مع تطوره
غير أنها – التعاريف- لم تخرج عن سياق الفلسفة الناظمة لهراركية تطور المفهوم في
حد ذاته (قيمة معيارية- سلعة مادية)؛ إذ أن هذه التوليفة حملت معها معان نقية
للأمن أو معان قيمية معيارية معلومة وملموسة، حيث يعرفه الأستاذ “أرنولد وولفرز” “Arnold wolfrs” مثلا على أنه “موضوعياً يرتبط بغياب التهديدات
ضد القيم المركزية، وأما ذاتياً فهو غياب الخوف من أن تكون تلك القيم محل هجوم”
وبالتالي فالملاحظ من خلال هذا التعريف أنه ركز على نقطتين أساسيتين: الأولى/
متعلقة بالجوانب الموضوعية الكامنة في البيئة الخارجية للوحدة المركزية للأمن وهي
التهديدات التي تتعرض لها أو يمكن أن تتعرض لها القيم المكتسبة ووحدتها المركزية،
أما الثانية: فمتعلقة بالجوانب الذاتية وهي الخوف من الهجوم من أي جهة كانت وهي
الكامنة ذاتياً.
لكن على الرغم من المصداقية العلمية التي تتمتع
بها هذا التعريف – حيث يعد أقدم تعريف لاقى إجماعاً بين الدارسين وتم تداوله على
نطاق واسع خاصة في الدراسات الأمنية، إلاّ
أن العبارات المستخدمة فيه قد شابها بعض الغموض فاستعمال كلمة غياب بالمعنى
المطلق لها قد عرض التعريف لجملة من
الانتقادات أثرت على تماسكه وأفقدته الرواج الأكاديمي الذي حظي به لفترة من الزمن؛
ذلك أن الغياب المطلق والتام للتهديدات أمر غير وارد من الناحية الموضوعية، وعليه
كان من المجدي استعمال كلمة احتمال تلف القيم المكتسبة التي تؤول أيضاً لمعنى وجود
تهديد ما دون أن تمس بمصداقية وقوة التعريف.
بالإضافة إلى ذلك، نجد أن التعريف المذكور لم
يحدد أي من القيم أو المرجعيات التي تكون محل تهديد أو محل خوف رغم أنه تحدث عن
وجود تهديدات إما موضوعياً أو ذاتياً، وعليه يوحي لنا هذا التعريف بضرورة البحث في
الأسئلة التالية: ما هي القيم المركزية التي يتعين على الوحدة المرجعية حمايتها؛
هل هي بقاء الدولة أو الاستقلال الوطني أو الوحدة الترابية، أم الرفاه الاقتصادي
أو الهوية الثقافية أو الحريات الأساسية ؟، وما هي الوحدة المرجعية للأمن؟ هل هي
الدولة أو الأمة أو البشرية والمجتمع الدولي أو الأفراد؟ وفيما تتجسد التهديدات؟
هل هي عسكرية أم غير عسكرية التي يتعين على الوحدة المرجعية حماية نفسها منها
التصدي لها ؟ ومتى نحكم على أن التهديدات موضوعية ومتى نحكم عليها بالذاتية؟ كل هذه الأسئلة جعلت من التعريف
السالف محل انتقاد بل محل مراجعة فكرية عميقة أسست لتكون أرضية جديدة لنهج جديد
يتناول الأمن وحقل الدراسات الأمنية.
من هذا المنطلق فإن تعريف “ولفرز” كان عبارة عن
صياغة لمعادلة ركزت على الحفاظ على القيم المكتسبة بغض النظر عن كنهها وموضوعها،
ولم تركز على وجود أو عدم وجود تهديدات على الرغم من مفصلية هذه الجزئية في قوة أي
تعريف، ثم أن التعريف ذاته لم يشر إلى الحدية الفلسفية للأمن، وهنا يتساءل الأستاذ
“باري بوزان””
Barry buzen” حول ما إذا كان
الأمن مطلق أم نسبي؟، وحتى نكتشف ذلك ينبغي البحث عن الوحدة المرجعية للأمن، على
الرغم من أن هذا التساؤل مقبول ولكن يبقى مبهم، “فالأمن لمن” هل للفرد أم لبعض
الأفراد أم لمعظم الأفراد أم لجميع الأفراد؟ ، وإذا كان “الدولة” هل هو لدولة
واحدة أم لبعض الدول أم لمعظم الدول أم لجميع الدول؟ وفي النظام الدولي، هل هو
لبعض النظم الدولية أم لمعظم النظم الدولية أو لجميع النظم الدولية؟، وبالتالي فإن
اختيار الإجابة على أي من هذه الأسئلة ستحدد بطبيعة الحال الوحدة المرجعية للأمن
أولاً، ثم قيمها بغض النظر على نسبية المرجعية أو شموليتها لأن الهدف هنا بحث
الوحدة المرجعية وقيمتها وليس البحث عن حدود من يشملهم الأمن
ويشير “بوزان” في هذا الصدد إلى أن كلمة الأمن
ترد في الحالة المطلقة عادة، لأن الكلمة واردة لوحدها دون تفسير أو تحديد،
وبالتالي حتى يكون الأمن مقصود يحتاج إلى كلمة ملحقة تحدد المعنى والمرجعية
المقصودة، وأن أي استعمال لهذا المفهوم خارج الحالة المطلقة له – دون الحاجة إلى
أي توضيح بعدي- يسبب عدم “الارتياح المفاهيمي” للمعاني التي يؤول لها أو يحتملها،
وبالتالي وجب التعامل مع المفهوم بالحالة المطلقة له، فإما أن تكون آمنا أو غير
آمن وبين الأمن واللاأمن توجد حالة الانتقال وهي ما أطلق عليها الأستاذ بوزان
“الطيف المتدرج” الذي يوحي بوجود درجات متفاوتة من الأمن تشكل مرحلة انتقالية بين
الأمن واللاأمن في الاتجاهين نزولاً وصعوداً، رغم أنه لا يسلم بوجود منطقة وسطى
بين الأمن واللاأمن.
وعلى الرغم من هذا الطرح فإن “بوزان” يقرّ بأن
“الأمن المطلق” هو ضرب من الخيال ويكاد أن يكون غير موجود ومع هذا ينبغي التعامل
مع المفهوم على أنه “المشكلة المنطقية” الناشئة عن غياب الحدية الفلسفية وطبيعة
الاختلافات الموجودة بين وصف وتصوّر مفهوم الأمن على أنه مفهوماً مطلقاً، وبين
اعتباره مفهوما نسبياً، وهي في الحقيقة أسئلة بلا إجابات موضوعية لأنها تبحث عن
الإجابة على تساؤل “كم يكفي” و” كم نحتاج ” وهو تساؤل يوحي بوجود نوع من النزعة
الذاتية في تصور ووضع الإجابة لمثل هذه الأسئلة، ولهذا من غير الممكن البحث عن
إجابة موضوعية منطقية ثابتة لتساؤلات ذاتية معيارية.
يتبع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء
الأول
الكاتب
: د. عبد الرفيق كشوط (أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، كلية الحقوق
والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، جامعة محمد الصديق بن يحي، الجزائر)
تاريخ
النشر: فبراير 25/2023
الموقع:
مركز المتوسط للدراسات الاستر