مناطق الاشتعال فى سوريا ودور العامل الخارجى
فرع القاهرة


 

لم تكن التوترات الأمنية التى شهدتها مدن الساحل السورى فى اللاذقية وطرطوس على مدار يومى السادس والسابع من مارس 2025، هى الأولى من نوعها، حيث سبق لفلول النظام السورى السابق القيام بعدة عمليات ضد قوات الأمن السورية منذ مطلع يناير من العام نفسه انطلاقاً من كون تلك المناطق هى مناطق تمركز الحاضنة الشعبية للنظام السورى السابق، حيث تتركز الأغلبية العلوية بها، بخلاف وجود بعض عناصر أسرة الرئيس السابق وتحديداً شقيقه ماهر الأسد، قائد الفرقة الرابعة داخل جيش النظام السورى السابق، بعد تقارير عن عودته من العراق؛ حيث وفرت الميليشيات الشيعية بها مأوى له، رغم نفى بغداد رسمياً للأنباء المتداولة فى هذا الشأن.

لكن الجديد فى أحداث السادس والسابع من مارس الجارى هو حجم الكمائن ونوعيتها التى قامت بها تلك الفلول ضد قوات الأمن الجديدة والتى أسفرت عن إصابة وقتل عدد كبير من تلك القوات قُدرت خسائرها بأكثر من مائة عنصر أمنى، هذا بخلاف ما تداولته أوساط الطائفة العلوية من تشكيل ما سُمى بـ "المجلس  العسكرى لتحرير سوريا" من قبل أحد قادة الجيش فى نظام بشار الأسد. لكن المؤسف فى تلك الأحداث كلها هو وقوع تجاوزات من قبل قوات الأمن السورية الجديدة فى التعامل مع الموقف تجاه المدنيين من الطائفة العلوية، ما أسفر عن وقوع خسائر بشرية كبيرة قدرت بوفاة أكثر من مائة مدنى بعضهم من النساء والأطفال، ما قد يعيد إلى الأذهان فكرة "العنف" الذى كان منهجاً "قديماً" اتسمت به بعض فصائل المعارضة المسلحة السورية قبل نجاحها فى التحول إلى إدارة نظام اجتماعى نجح إلى حد ما فى إدلب وانتقلت منه لإدارة دولة بحجم سوريا.

مناطق اشتعال متعددة وأجندات خارجية

ولم يتوقف دور فلول النظام السابق من العلويين فى مناطق الساحل وأجزاء من حمص على مجرد تنفيذ الكمائن ضد قوات الأمن واختطاف بعض عناصرها وقتل آخرين، بل امتد نشاطها إلى رفع معدلات بث الفتن بين الأقليات المكونة للنسيج المجتمعى السورى فى تلك المناطق باعتبار أن ذلك هو الباب الرئيسى لضرب حالة السلم المجتمعى ومن ثم التأثير سلباً على حالة الاستقرار السياسى بما يؤثر على وضع الإدارة السورية الجديدة من ناحية، وعلى مسار المرحلة الانتقالية ككل من ناحية ثانية، والتى بدأت أولى خطواتها بتدشين جلسات الحوار الوطنى فى المحافظات السورية المختلفة، ويؤثر ثالثاً على وضع سوريا الجديدة فى الإقليم والعالم والتى لا تزال تفاعلات إدارتها الجديدة محط اختبار ومراقبة لاسيما من قبل القوى الكبرى كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى؛ وهى القوى التى اتخذت قرارات بشأن الرفع الجزئى والنوعى والتدريجى للعقوبات التى كانت مفروضة على النظام السورى السابق.

 

 

سبقت عمليات بث الفوضى الأمنية من قبل فلول النظام السورى السابق فى مدن الساحل السورى عمليات أخرى شُنت ضد قوات الأمن السورية خلال الأسبوع الأول من مارس فى بعض المناطق التى تشهد تمركزاً للأقلية الدرزية مثل جرمانا بجنوب شرق العاصمة دمشق على خلفية أنباء تقول بأن قوات الأمن الجديدة تمارس نشاطاً دموياً وعنيفاً ضد بعض الطوائف تحديداً خلال عملها فى تمشيط مناطق يعتقد أن فلول النظام السابق تتخذ منها مأوى لها، مما أدى إلى دفع العشائر الدرزية فى تلك المنطقة إلى استهداف عدد من عناصر الأمن وأسفر ذلك عن وقوع خسائر بشرية بين صفوف الأخيرة، لكن تداركت الإدارة الجديدة أن ثمة محاولات لبث الفتنة بين عناصر الأمن وبين الطائفة الدرزية تحديداً، ونجحت عبر التواصل مع الزعماء الروحانيين  للطائفة الدرزية فى معالجة الموقف ووقف مسار المواجهات بين الطرفين.

 عند هذا الحد تم تطويق الخلاف بين قوات الأمن التابعة للسلطة السورية الجديدة وبين الدروز وتصنيف ما حدث بأنه مسار طبيعى لمحاولات فرض الأمن فى مناطق قد يلعب فيها فلول النظام السابق دوراً فى بث الفتنة واللعب على وتر الطائفية فى سوريا ، بهدف ضرب أهم مرتكزات المرحلة الانتقالية التى أعلن عنها الشرع فى بدايات المرحلة الانتقالية الأولى – الثلاثة شهور الأولى التى تلت سقوط النظام السورى-  وأهمها الحفاظ على حالة التماسك المجتمعى وعدم التعرض للأقليات، لكن الأمر غير المقبول هو ما أعلنته إسرائيل من تهديد مباشر بالتدخل فى حالة تعرضت الطوائف الدرزية فى الجنوب السورى، الذى بات محتلاً منها فى أعقاب تغير النظام فى دمشق ، بهدف حماية تلك الطوائف، وهو ما نتج عنه رفض مقابل من قبل بعض الطوائف الدرزية فى محافظة السويداء.

ويبدو هذا التبجح الإسرائيلى، لاسيما بعد رصد تحركات لتوغل عسكرى فى ريف درعا الشمالى، كاشفاً عن مخطط تل أبيب بالسعى لإعادة مشروعها الهادف إلى تقسيم سوريا إلى واجهة الأحداث مجدداً، وذلك بهدف أولاً، تحقيق هدفها فى إنشاء منطقة عازلة تشمل الجنوب السورى بأكمله على أن يكون جنوباً منزوع السلاح الثقيل ولا تتواجد فيه قوات أمن عسكرية نظامية تابعة للإدارة السورية الجديدة. وثانياً، استمالة بعض الطوائف الدرزية ليكون منهم عناصر محليون يتولون حماية تلك المناطق-على غرار التجربة الأمريكية مع قوات سوريا الديمقراطية "قسد" فى الشمال السورى- وربما فى مرحلة ما تتجه دولة الاحتلال إلى تسليحهم تسليحاً يماثل قوات الأمن العسكرية، بما قد يفتح المجال أمام الدروز أو بعض طوائفهم لتشكيل دولة درزية فى الجنوب السورى تكون متماهية مع إسرائيل.

هذا الهدف تحديداً بدأ يكون له أصداؤه داخل بعض وليس كل الطوائف الدرزية فى محافظة السويداء نفسها حيث طالب بعضها – مجموعات مسلحة تتبع أحد الزعماء العشائريين -  بإدارة ذاتية لمحافظة السويداء وهو ما يعنى وجود رغبة لدى بعض الدروز باستنساخ تجربة الإدارة الذاتية الكردية فى مناطق الشمال السورى، وثمة أنباء تقول بأن بعض طوائف الدروز فتحت قنوات تواصل مع الولايات المتحدة لاستبيان موقفها من هذا الطرح.

الدلالات والأبعاد العسكرية

تزامنت هذه التطورات مع رفض متواصل من جانب قوات سوريا الديمقراطية "قسد" مطالب الحكومة السورية الجديدة بتسليم السلاح وتفكيك نفسها كتنظيم والقبول بالانضمام إلى مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، على غرار ما فعلته هيئة تحرير الشام والفصائل المسلحة التى كانت تابعة لها. فلا تزال "قسد" ترى أن تفكيك تنظيمها يعد فرصة لفرض هيمنة دمشق كعاصمة مركزية على مسار الإدارة الذاتية لمناطق الأكراد السوريين فى شمال وشمال شرق سوريا، وأن هذا سيتبعه بالضرورة انتقال كافة موارد الاقتصاد التى تسيطر عليها "قسد" فى تلك المناطق إلى سيطرة دمشق –موارد النفط والزراعة– وهو ما ترفضه الإدارة الذاتية؛ لأنه سيفكك فكرة وهدف "الاستقلال الإدارى" الكامل عن الدولة السورية كبديل عن هدف "الاستقلال السياسى" الكامل الذى يهدف إلى إنشاء دولة كردية منفصلة عن الدولة السورية كلية؛ بمعنى أن الأكراد السوريين أعلنوا رفض الانفصال عن سوريا لكنهم فى الوقت نفسه أكدوا على الإبقاء على نوع من الإدارة الذاتية لمناطقهم إلى أن يتشكل المسار السياسى الكامل للدولة السورية الجديدة، ويتم بعدها "التفاوض" بشأن سبل حماية "مصالح" و"خصوصية" الأقلية الكردية فى مناطق الشمال السورى، هذا من ناحية العلاقة بين "قسد" ودمشق الجديدة، لكن من ناحية أخرى فإن "قسد" نفسها لاتزال تترقب الدور الأمريكى فى ظل إدارة ترامب الذى لم يحدد بعد موقفاً واضحاً تجاه استمرار دعم واشنطن العسكرى للأكراد السوريين من ناحية، وتجاه مستقبل الوجود العسكرى الأمريكى فى سوريا من ناحية ثانية.

نتائج تطور الأحداث فى سوريا

- أن التحديات الأمنية التى تواجهها الإدارة السورية الجديدة لاتزال هى  الأكبر فى مسار المرحلة الانتقالية لاسيما مع ضعف بنية وتكوين المؤسسات الأمنية الجديدة وقلة خبرتها التى تحتاج إلى مزيد من التدريب على طرق التعامل مع حالات التمرد المناطقى، خاصة وأن تمركز تلك الحالات تكون فى مناطق مأهولة بالمدنيين؛ حيث ستظل نتائج عملية قمع تمرد العلويين من فلول النظام السابق فى مدن الساحل السورى بخسائرها البشرية فى أوساط المدنيين علامة على تجاوزات أمنية من قبل القوات حديثة التشكيل، حتى وإن أعلنت الحكومة المؤقتة عن تشكيل لجنة تقصى حقائق لرصد المتجاوزين لتعليمات القيادة خلال العملية العسكرية والأمنية الأخيرة فى محافظات الساحل السورى تمهيداً لإحالتهم للمحكمة العسكرية. كما أن عدم وجود رؤية شاملة لمنع تكرار مثل هذه الأحداث سيؤدى إلى تهديد مباشر لشرعية النظام الجديد وقدرته على فرض السيطرة على الجميع بالمعنى المجتمعى، وعلى الحالة الأمنية بالدولة بالمعنى السيادى.

- محاولة ضرب الاستقرار الأمنى وحالة التوافق المجتمعى التى كانت الرافعة الأساسية التى اعتمد عليها الرئيس الانتقالى أحمد الشرع فى إدارته للدولة السورية وحصوله على الشرعية الداخلية والاعتراف الخارجى عربياً ودولياً، حيث يلاحظ تزامن حدث تمرد العلويين مع عودته من اجتماعات القمة العربية الأخيرة فى القاهرة بخصوص القضية الفلسطينية، فضلاً عن التأثير على توجهات الأمريكية والأوروبية بشأن استكمال عملية رفع العقوبات بصورة شاملة وكاملة وهو هدف يضع الشرع والحكومة الانتقالية أمام تحدٍ اقتصادى كبير من شأنه أن يعرض حالة الاستقرار المجتمعى للتهديد، نظراً لصعوبة وضع الاقتصاد السورى المنهك بشدة بعد سنوات الصراع المسلح التى تجاوزات الثلاثة عشر عاماً. وتجدر الإشارة هنا إلى أن عدم نجاح قوات الأمن فى القضاء على التمرد العلوى فى مدن الساحل السورى كان سينتج عنه تداعيات اقتصادية كبيرة، لأن ذلك سيعنى خروج محافظات الساحل بالكامل من تحت سيطرة الدولة والحكومة الانتقالية؛ لاسيما وأن مناطق الساحل هى عبارة عن منافذ تجارية مع العالم الخارجى حيث الموانئ الساحلية ومسارات التجارة والنشاط الاقتصادى لسوريا كلية.

- أن ثمة دوراً واضحاً للعامل الخارجى الداعم لتمرد فلول النظام السابق فى مناطق الساحل السورى- اللاذقية وطرطوس- وبعض مناطق الوسط السورى فى حمص؛ وينعكس ذلك فى فكرة "تشكيل مجلس لتحرير سوريا"، فالفكرة تنبئ عن وجود مسار متصاعد من عمل تخطيطى بدعم خارجى هدفه الرئيسى ليس تحرير سوريا من النظام الجديد بقدر ما هو هدفه ضرب بنود ومرتكزات المرحلة الانتقالية التى أعلن عنها الشرع نفسه فى خطاباته المتعددة لاسيما بعد تنصيبه رئيساُ مؤقتاً للدولة السورية. العامل الخارجى يبدو أنه يشير إلى دور متوقع لإيران التى تراجع نفوذها فى سوريا كثيراً بسقوط النظام السورى السابق، ويشير أيضاً إلى دور خفى لبعض المليشيات العراقية، التى وفرت مأوى لبعض أفراد من أسرة الأسد.

- أن دولة الاحتلال الإسرائيلى تسعى دائماً إلى الاستفادة من أى متغيرات أمنية داخل دول المنطقة لاسيما التى لها حدود مباشرة معها، وأن هدفها فى الجنوب السورى، كما سبقت الإشارة إليه سابقاً، يتجاوز احتلال الجنوب أو نزع سلاحه بالكامل، وإنما يصل إلى الرغبة فى خلق بيئة محلية موالية لها فى محافظات الجنوب. وتزداد المخاوف من التحركات الأخيرة تجاه شمال درعا بالقرب من دمشق نفسها استغلالاً لانشغال القوات الأمنية والعسكرية بقمع تمرد العلويين فى مدن الساحل.

ختاماً، يمكن القول إن الإدارة السورية الجديدة برئاسة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع باتت أمام تحديات أمنية كبيرة، وأن ثمة قوى خارجية رغم اختلاف مشاريعها الإقليمية فى المنطقة – إيران وإسرائيل – إلا أن مصالحها تلاقت فى إبقاء سوريا الجديدة ضعيفة ومنهكة أمنياً واقتصادياً وإغراقها فى حالة من التوتر الطائفى بهدف تهديد حالة السلم المجتمعى وتعطيل المرحلة الانتقالية، لكن فى الوقت نفسه ثمة حالة من التجاوزات فى المعالجات الأمنية فى مسار مواجهة فلول النظام السابق أدت إلى وقوع خسائر بشرية لمدنيين، وهو ما يفرض على الحكومة الانتقالية "تقييد" نمط ونطاق وطريقة ملاحقة المتورطين بقدر من الضوابط التى تضمن محاسبة المتورطين فقط، بحيث لا يُفتح باب للثأر المتبادل بين القوات الأمنية التى قوامها الرئيسى فصائل هيئة تحرير الشام التى فككت تنظيمها وكانت نواة أساسية للقوات الأمنية والعسكرية وبين طوائف المجتمع السورى الأخرى، وهو ما يستدعى حتمية المضى قدماً فى تشكيل هيئة تتولى تنفيذ "العدالة الانتقالية" التى تضمن محاسبة المتورطين أياً كانوا وفقاً لقواعد القانون بما يعزز من ثقة أطياف الشعب السورى فى نظامهم الجديد حتى وإن كان يقود مرحلة انتقالية فى تاريخهم.

 

 

 

 

المصدر: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

الكاتب : صافيناز محمد أحمد

التااريخ : 9/3/2025

------------------------------------------------------

المصدر: صحيفة الدستور

الكاتب : محمد عبد المنعم

التاريخ : 6/12/2024

المقالات الأخيرة