يقترن
مصطلح القوة الناعمة ومفهومها بجوزيف ناي في التسعينيات، فالقوة الصلبة يتم اللجوء
إليها للإرغام أو العقاب على القيام بفعل أو العدول عنه بما يرضى الطرف الآخر. في
حين أن القوة الناعمة تغرى وتقنع وتحث على الاستجابة والتوافق مع أجندة صاحب القوة
الناعمة.
وتشمل
القوة الناعمة العناصر المستخدمة من قبل فاعل سياسي (دولة، منظمة دولية، شركة،
شبكة للمجتمع المدني) من أجل التأثير بشكل غير مباشر في فاعل آخر بغرض حمله على
تبنى وجهة نظره، وتحقيق مراميه دون الشعور بالطابع الإجباري لهذه العلاقة. إنها
مجموعة قوى نافذة تتسلل إلى البنيات، وتتمركز أساسا في المجال الثقافي: فنون
وأنماط حياة وصور ذهنية.
تسعى
الدول الكبرى إلى غزو العالم والسيطرة على الشعوب من خلال عدد من الخيارات التي
تمثل الأخطر والأسهل والأكثر تأثيرا لتحقيق مصالحها من خلال ما يعرف باسم
"القوة الناعمة" التي تمثل القوة الروحية والمعنوية للدولة، تمتد هذه
القوة إلى خارج حدود الدولة.
وعلى
عكس ما يعتقد كثيرون فإن مفهوم "القوة الناعمة" بات يخضع لمؤشرات عدة
لقياسه وتعيينه تعيينا منضبطا، وبعض هذه المؤشرات يتضمن عناصر مختلفة. ويصل عدد
هذه العناصر، وفق ناي، إلى 75 عنصرا ضمن ست مجموعات، هي: الثقافة (متضمنة
الإعلام)، والتكنولوجيا، والتعليم، والدبلوماسية، والاقتصاد، والسياسة.
وبين
المحاولات الجادة التي حاولت أن ترسى معايير لقياس "القوة الناعمة" تلك
المحاولة التي أثمرت "مؤشر بورتلاند"، وهو مؤشر طوّرته مؤسسة بحثية
أمريكية معروفة بمساعدة عدد من الباحثين في أهم الجامعات الغربية. ويحدد المؤشر
ستة عناصر لقياس "القوة الناعمة" في أي دولة، ويبرز بينها مفهوم
"النفاذية الثقافية" التي تتضمن الإنتاج الإعلامي، والتواصل الرقمي
للدولة.
يتضح
لنا إذن أن الإعلام يحتل مكانة مميزة في قلب مفهوم "القوة الناعمة"،
بسبب قدرته الفائقة على صناعة الرأي العام وتشكيله. وقد حاول "ناي" أن
يصوغ العلاقة بين الإعلام والرأي العام، فقال إن "المعارك لا يمكن أن تربح
فقط في ميادين القتال، بل إن الكاسب في الحرب هو ذلك الذي تربح قصته في
الإعلام". وببساطة شديدة، فإن هذه العبارة تعنى أن تصورات الجمهور عن الأحداث
كثيرا ما تقوم مقام "الحقيقة" مهما كانت بعيدة عنها؛ وهو ما جعل كثرة من
الناس يؤمنون بالقول الغربي السائر"Perception Is Reality"أي "التصور هو الواقع".
تطور
النظام الاتصالي والاعلامي الدولي:
تعد
فترة الحرب الباردة مرحلة جوهرية في تطور النظام الاتصالي والإعلامي الدولي، لأنها
شهدت اندماج مكونات النظام الأساسية: التكنولوجية والسياسة الاقتصادية والثقافية
والنفسية في كتلة واحدة وظفتها الأطراف المتصارعة لخدمة أهدافها الاستراتيجية في
الصراع . فقد ساعدت تكنولوجيات الاتصال، التي كانت في حد ذاتها أحد مجالات التنافس
والصراع بين الدول الكبرى، على تدويل الاقتصاد، وظهور الاقتصاد العالمي، وإلى تحول
النظم الرأسمالية من مرحلة المجتمعات الصناعية إلى مرحلة ما بعد التصنيع، وظهور
مجتمعات المعلومات، أو المجتمعات المتقدمة ذات الاقتصادات القائمة على "صناعة
المعلومات والخدمات" وأدى الاندماج التكنولوجي/الاقتصادي، والاندماج
التكنولوجي/العسكري، والتكنولوجي/السياسي في مجالات الاتصالات المختلفة إلى إصرار
الدول المتقدمة على عدم المساس بأوضاع النظام الاتصالي الإعلامي الدولي في جوانبه
السياسية والقانونية والثقافية، وعدم قبول فكرة التعديل والإصلاح لجعله نظاما
دوليا أكثر عدالة وتوازنا لمصلحة دول الشمال والجنوب، وهو ما حول أوضاع هذا النظام
إلى إحدى قضايا الصراع الأساسية في النظام الدولي في عقدي السبعينيات والثمانينيات
من القرن العشرين، كما شهدت هذه الحقبة ذروة عمليات الضبط الاجتماعي والسيطرة على
العقول، والاختراق المباشر وغير المباشر لتوجهات الدول النامية السياسية
والاقتصادية والثقافية لدمجها كتوابع في النظام الرأسمالي العالمي.
إعادة
هيكلة النظام الاتصالي:
عندما
انتهت الحرب العالمية، سعت الدول إلى إعادة بناء شبكاتها الاتصالية التي دمرتها
الحرب، وشملت عملية إعادة البناء ربط الشبكات الوطنية بالشبكات الدولية، التي شرع
في تطويرها في ضوء التقنيات الحديثة التي ولدتها الحرب العالمية الثانية. وكان ذلك
دليلا على بداية اندماج النظام الاتصالي الدولي تكنولوجيا، وقد شهدت مرحلة ما بعد
الحرب العالمية الثانية ظهور اتجاهين، الأول: يسعى إلى تفكيك النظام الاتصالي
القائم لإعادة بنائه على أسس جديدة من العدل والمساوة بين الدول، أما الاتجاه
الثاني، فقد تمثل في اتجاه النظام الدولي إلى إنشاء منظمات وهيئات اتصالية
وإعلامية دولية تحت مظلة الأمم المتحدة لترشيد النظام الاتصالي والإعلامي الدولي.
مكانة
الدولة في سلم القوة:
لدى
كل الدول إدراك لمكانتها في سلم القوة بالنسبة لغيرها من الدول، ويتجه هذا الإدراك
جزئيا لأشكال تدفق المعلومات وحجمه واتجاهاته، فالمعلومات الواردة من دولة قوية أو
من دولة عدوانية قد تكون معلومات مهمة وحيوية إلى حد كبير بالنسبة لجيرانها من
الدول الصغرى التي تضطر لتقرير ما إذا كان يتعين عليها الاستعداد لعدوان محتمل، أو
تسعى للدخول في تحالف مع جارتها الأكثر قوة. بيد أن ما تفعله الدول الصغرى يحتمل
أن يكون أقل أهمية لدى الدول الأقوى. وعلى هذا يرى "هستر" أن كم
المعلومات الذي يتدفق من الدول الأقوى إلى الدول التي تليها في سلم القوة يفوق كم
المعلومات المتدفق في الاتجاه العكسي. وبالطبع فإن العوامل ذاتها التي تجعل من
القوة عاملا محددا في هذا الصدد والأكثر تعقيدا ينتج معلومات أكثر من غيره. وتشمل
المكونات التي تحدد مكانة الدولة في سلم القوة: حجمها الجغرافي، وعدد سكانها،
ودرجة نموها الاقتصادي، وعمرها كدولة ذات سيادة.
الإعلام
أساس القوة
ويعني
ذلك أن القوة الإعلامية هي الأساس الذي يمكن أن تقوم عليه القوة الصلبة، حيث
تستخدم الدولة قوتها الإعلامية في توفير المعرفة لجمهورها، وتعبئته للإنتاج
والابتكار، وبناء الاقتصاد القائم على المعرفة.
كما
أن القوة الإعلامية تساهم في بناء القوة الذكية عن طريق التنسيق بين القوة الصلبة
والناعمة.
لذلك
فإن كل دولة تريد أن تبني قوتها السياسية والاقتصادية والمعرفية لا بد أن تفتح
المجال لإنشاء وسائل إعلامية متعددة ومتنوعة توفر لجماهيرها المعرفة، وتنقل
للأجيال الجديدة تراثها وثقافتها، وإنجازاتها الحضارية، فتبني بذلك صورتها الذاتية
التي تثير الاعتزاز بالانتماء لها في نفوس شبابها.
كما
أن الدولة التي تمتلك وسائل إعلامية قوية تستطيع أن تبني مكانتها الدولية،
وعلاقاتها الخارجية عن طريق تشكيل صورة إيجابية لها في عقول الجماهير، وبذلك
تستطيع أن تكسب العقول والأرواح.
لذلك
فإن بناء القوة الإعلامية يمكن أن يشكل توازنا ناعما مع القوة الصلبة يؤدي إلى
ترشيد استخدام هذه القوة، حيث أثبتت تجارب القرن الـ21 أن الاستخدام المبالغ فيه
للقوة الصلبة يشكل صورة سلبية للدولة، ويزيد الكراهية والعداء لها، ويمكن أن يؤدي
في النهاية إلى الهزيمة.
لذلك
فإن الدولة التي تريد أن تحقق القوة في كل المجالات يجب أن تكافح لبناء قوتها
الإعلامية عن طريق إطلاق حرية الإعلام، وتأهيل الكوادر القادرة على إنتاج مضمون
يجذب الجماهير، وبناء صناعة مضمون تشكل أساسا لبناء مجتمع المعرفة.
إن
الدولة التي تقيد حرية الإعلام، وتضطهد الإعلاميين وتقهرهم يمكن أن تحمي النظام
سنوات معدودة، لكنها تضعف الدولة إعلاميا ومعرفيا وثقافيا، ونتيجة لذلك تفقد قوتها
الصلبة.
النظام
العالمي الجديد للمعلومات والاتصالات
تكمن
فكرة هذا النظام في محاولة العديد من الدول مواجهة المشكلات المرتبطة بما أطلق
عليه بعضهم (الاستعمار المعلوماتي)
فالاتصال
نشاط محوري لجميع الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويدعو النظام العالمي
الجديد إلى إجراء تغييرات هيكلية في الاتصال على المستوى العالمي وصولا إلى عدالة
أكثر ومساواة أكثر وتفاعل أكثر بالنسبة إلى تبادل المعلومات، فضلا عن ضرورة مزيد
من الاعتماد على الذات والحفاظ على الهوية الثقافية.
ومن
أبرز خصائص النظام الدولي للمعلومات هي:
1-
التسارع: تتسم التغييرات في المجتمعات بتزايد سرعتها باستمرار وهو ما يخلق فجوة
كبيرة تتزايد باستمرار بينها وبين الدول النامية.
2-
الانفجار المعرفي: وتمثل الإفرازات البارزة بالدعوة الصارخة إلى (نظام إعلامي
عالمي جديد).
الظواهر
المرتبطة بالنظام الإعلامي الدولي:
لقد
أصبح العالم يواجه ظاهرتين تحدثان في وقت واحد، إحداهما: تطور النظام الإعلامي
الدولي من طابع الثنائي إلى طابع النظام الواحد، حيث أصبح القطب الواحد هو المهيمن
على النظام العالمي مع وجود مراكز إعلامية أقل قدرة وأضعف نفوذا مثل بريطانيا
وفرنسا وألمانيا واليابان، وتكمن مشكلة هذا النظام في أن الطاقة العقلية التي
تولدها تقنيات الإعلام تملك، أو تدير، غالبيتها العظمى مؤسسات إعلامية تعمل عبر
الدول وتتحكم هذه المؤسسات عبر الدول في قنوات الاتصال في الدول الساعية للنمو،
فتنساب الرسائل الإعلامية والثقافية من المركز (الدول المتقدمة) إلى الأطراف
(الدول الساعية للنمو).
الفاعلون
في السياسة الخارجية:
1- الرأي العام: حيث إن قدرة الجمهور على
الحصول على المعلومات واستخدامها في تشكيل الرأي العام جزء من الوظيفة الديمقراطية،
لكن حصول الجمهور على المعلومات يعد حاسما في تشكيل الرأي العام في قضايا السياسة
الخارجية، ولذلك هناك علاقة قوية بين وسائل الإعلام والرأي العام.
2- صناع القرار: كيف يستجيب صناع القرار للرأي
العام؟ لابد من أن يحصل صناع القرار على المعرفة عن الرأي العام في القضية، لكن
خطابهم يؤثر أيضا في الرأي العام، وهم يميلون إلى قراءة استطلاعات الرأي العام.
بما يتفق مع رؤيتهم، ولكن هناك فجوة معرفة أو فجوة معلومات Information
gap
بين القادة والجمهور، وفى الصراعات الكبرى يكون التحدي هو: كيف يمكن تقليل هذه
الفجوة، وهذا يفتح المجال لدور وسائل الإعلام لصنع العلاقة بين الرأي العام وقيادة
السياسة الخارجية.
3- وسائل الإعلام: إن وسائل الإعلام فاعل
استراتيجي في عملية صنع السياسة الخارجية؛ فهي تقدم للجمهور خطاب النخبة، وتقدم
القصص الخبرية في أطر تستجيب لتفضيلات القادة. ولذلك فإن دور وسائل الإعلام في
السياسة الخارجية يرتبط باستقلالها، ومدى التزامها بالأطر التي حددها خطاب القادة
للصراع. ويتضح ذلك من دور وسائل الإعلام في تشكيل الرأي العام عقب 11 سبتمبر
والتزامها بالأطر التي حددها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش.
الصورة
الذهنية كمتغير في العلاقات الدولية:
تكمن
سياسات القوة في العالم في القدرة على صنع صورة الدولة، وهو ما يطلق عليه القوة
الناعمة Soft
Power.
فمع تزايد أهمية الجماهير في الشئون الدولية ازدادت أهمية عملية صنع صور الدول، ما
يصعب أن نرى شيئا يتعلق بالسياسة الخارجية ولا يرتبط بالدعاية والعلاقات العامة.
وأن العملية الدبلوماسية تتحول من الدبلوماسية التقليدية إلى الدبلوماسية العامة،
ما يتطلب ألا تقتصر ممارسة الدبلوماسية العامة على الدبلوماسيين فقط، وإنما تمتد
إلى مختلف الأفراد والجماعات والمؤسسات التي تنخرط في أنشطة الاتصال الدولي، التي
تتصل بالعلاقات السياسية.
نشر
إدوارد بيرنيز أحد أهم رواد العلاقات العامة Edward Berny’sأول مقالة علمية له عن هندسة الجمهور عام 1947.
وقد استخدم في سبيل ذلك الدعاية السياسية (البروبوجاندا) وحملات العلاقات العامة،
والتدفق الإعلامى،وغيرها من الاستراتيجيات والوسائل الإعلامية التي تؤثر في
اتجاهات الجمهور، ما زاد من أهمية القوة المرنة بالاعتماد على طرق الإقناع
والتأثير في الرأي العام العالمي، والقدرة على التعبئة والحشد والحصول على
المساندة، وأدى ذلك إلى وجود زخم كبير من حجم الفاعلين في العلاقات الدولية
والتأثير في عملية صنع السياسة الخارجية للدول والسياسة الدولية بصفة عامة، وأصبح
لتلك القوة الجديدة تأثيرات في جميع المجالات وأنماط الحياة على مستوى العالم وذلك
من خلال التأثير في المجال السياسي عن طريق "تدفق المعلومات"؛ حيث تتحول
المعرفة إلى قوة أساسية أقوى من قوى الإنتاج.
وتعد
فكرة صناعة الرأي العام التي تحدث عنها ولوتر ليبمان عام 1922إحدى وسائل هندسة
الجمهور، حيث يفترض فيها قدرة النخب على تشكيل الرأى العام للجمهور والهيمنة عليهم
دون استخدام القوة، من خلال إقناع قادة الرأي العام والنخب بآراء معينة.
القوة
الإعلامية وفرض السيطرة:
تتميز
القوة الإعلامية بأنها يمكن أن تستخدم في فرض الاستعمار الثقافي، ولا يقتصر
استخدامها على تحقيق جاذبية الدولة، وبناء سمعتها وصورتها كما يتضمن مفهوم القوة
الناعمة.
هذا
لا يعنى أننا يمكن أن نفصل تماما بين هذه المفاهيم الحديثة، فوسائل الإعلام من أهم
مصادر القوة التي تستخدمها الدول في بناء قوتها الناعمة، وتحقيق أهداف سياستها
الخارجية، وبناء علاقاتها الطويلة المدى مع الشعوب.
مراحل
التطور التكنولوجي للمعلومات:
شهدت
الخريطة الاتصالية قفزات تكنولوجية وإعلامية هائلة ومتسارعة، فمنذ منتصف الستينيات
عندما وضع أول قمر صناعي للاتصالات في مدار قريب من الأرض والدخول في الألفية
الثالثة فإن تكنولوجيا الاتصال أصبحت عنصرا ملازما لكل مظاهر الحياة العصرية، كما
أن "مصطلح تقانة الاتصال" يعنى التقنيات والمؤسسات والأساليب التي
بواسطتها تتيح المعلومات وتعلب وتوزع على مستقبلين متفرقين فوق رقعة جغرافية.
ويمكن تعريف التكنولوجيا بأنها: مجموعة من النظم والقواعد التطبيقية وأساليب العمل التي تستقر لتطبيق المعطيات المستحدثة لبحوث أو دراسات مبتكرة في مجالات الإنتاج والخدمات كونها التطبيق المنظم للمعرفة والخبرات المكتسبة التي تمثل مجموعات الوسائل والأساليب الفنية التي يستعملها الإنسان في مختلف نواحي حياته العملية ومن ثم فهي مركب قواه المعدات والمعرفة الإنسانية. كذلك فإن التكنولوجيا: هي مجموعة المعارف والخبرات المكتسبة التي تحقق إنتاج سلعة أو تقديم خدمة وفى إطار نظام اجتماعي واقتصادي معين.
المراجع:
(ب، ن)، 22.8.2014 ، القوة الإلكترونية عنصر
أساسي مؤثر في النظام العالمي، موقع العرب.
د. سليمان صالح ، 2.7.2022 ، مفهوم القوة
الإعلامية: كيف تستخدم الدول وسائل الإعلام لبناء قوتها؟ ، الجزيرة.