ملامح حضور الأزمات العالمية في مؤتمر ميونخ للأمن 2025
فرع بنغازي

في خضم التحولات السياسية والأمنية المتسارعة، تبرز الدورة الـ61 من مؤتمر ميونخ للأمن 2025 كواحد من أهم المحافل الدولية لمناقشة القضايا الأكثر إلحاحاً على الساحة العالمية. وقد شهدت هذه النسخة حضور قادة عالميين ونخبة من صناع القرار، أبرزهم "زيلينسكي" الرئيس الأوكراني و"أولاف شولتز" المستشار الألماني و"جي دي فانس" نائب الرئيس الأمريكي؛ حيث تصدرت الحرب في أوكرانيا أجندة النقاشات حول التوترات العالمية. وقد تباينت وجهات نظر القادة حول سبل تسوية الأزمة الأوكرانية؛ ففي حين مثّل موقف المستشار الألماني أولاف شولتز دعماً واضحاً لأوكرانيا، مشدداً على أهمية تعزيز وحدة الموقف الأوروبي والدولي لمواجهة التحديات المتزايدة، فإن "فانس" سلط الضوء على التحديات القيمية التي تواجه أوروبا من الداخل باعتبارها المهددات الأكثر أهميةً للأمن الأوروبي.

سياق الأزمات

يمكن رصد أهم الملامح والأبعاد التالية باعتبارها مكونة للسياق المصاحب لانعقاد المؤتمر:

1- التصعيد المستمر في الأزمة الأوكرانية: يأتي انعقاد الدورة الـ61 لمؤتمر ميونخ للأمن 2025 في وقت يشهد فيه العالم استمرار التصعيد في الأزمة الأوكرانية؛ حيث تواصل روسيا عملياتها العسكرية؛ ما دفع أوكرانيا إلى تكثيف مطالباتها بالمزيد من الدعم العسكري والمالي من الحلفاء الغربيين. خلال المؤتمر، دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى تشكيل "جيش أوروبي موحد"، مؤكداً أن مواجهة التهديدات الروسية تتطلب استجابة موحدة تتجاوز الحدود الوطنية. ووفقاً لتقارير رسمية، بلغت قيمة المساعدات العسكرية الغربية المقدمة لأوكرانيا خلال عام 2024 ما يقرب من 50 مليار دولار. ولم تقف هذه الدعوات عند الدعم العسكري، بل امتدت لتشمل خططاً لتعزيز أمن الطاقة الأوروبي، الذي تضرر بشدة نتيجة انقطاع إمدادات الغاز الروسي.

2- ترابط الأزمات الأمنية والاقتصادية في أوروبا: تزامنت أعمال المؤتمر مع أزمات اقتصادية خانقة تمر بها العديد من الدول الأوروبية بسبب تداعيات الحرب المستمرة في أوكرانيا؛ فقد بلغت نسبة التضخم في منطقة اليورو 6.5% مع نهاية عام 2024، في حين سجلت أسعار الطاقة ارتفاعات قياسية فاقت 30% مقارنة بالعام السابق. هذه الأزمات أثرت بشكل مباشر على الخطط الأمنية؛ حيث تتعرض الحكومات لضغوط شعبية متزايدة لتحقيق التوازن بين الإنفاق الدفاعي ودعم الاقتصاد الوطني. وفي كلمته أمام المؤتمر، دعا المستشار الألماني أولاف شولتز إلى ضرورة الاستثمار في القدرات الدفاعية المشتركة مع الحفاظ على استقرار الاقتصادات الأوروبية، في انعكاس لأولوية وإلحاح الاعتبارات الاقتصادية.

3- التوترات بين الولايات المتحدة وأوروبا: جاء انعقاد المؤتمر في ظل أجواء من التوتر الملحوظ بين القادة الأوروبيين والأمريكيين، انعكست في الانتقادات الحادة التي وجهها نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس إلى القادة الأوروبيين؛ حيث وصف فانس استجابة أوروبا للأزمة بأنها بطيئة وغير منسقة؛ ما أثار استياء القادة الأوروبيين الحاضرين. وفي حقيقة الأمر، فإن هذا الخطاب يعكس تصاعد الخلافات بين الحلفاء الغربيين حول إدارة الأزمات العالمية، وتوجهات الرئيس ترامب نفسه الذي يرى قدراً كبيراً من القصور في المساهمات الأوروبية في أمن القارة العجوز، وبما يرتبه ذلك من ضرورة إعادة توزيع الأعباء بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين. وقد أكدت مصادر مطلعة أن أحد المحاور الجانبية للمؤتمر كان يهدف إلى تهدئة هذه التوترات ومحاولة الوصول إلى تفاهمات مشتركة حول كيفية التعامل مع التحديات القادمة.

4- الارتدادات العالمية لتفجر الأوضاع في الشرق الأوسط: في مؤتمر ميونخ للأمن 2025، كان الشرق الأوسط حاضراً بقوة على أجندة النقاشات؛ نظراً إلى تعدد الأزمات التي تهدد استقرار المنطقة وتأثيرها على الأمن العالمي؛ حيث تتصدر الأزمة في غزة المشهد، بما تحمله من أبعاد متصلة بالوضع الإنساني المتدهور والتوترات المتكررة التي تنذر بتصعيد جديد. وبجانب قضية غزة، يأتي الملف النووي الإيراني ضمن قضايا الشرق الأوسط المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بسياق انعقاد المؤتمر، خاصة مع وجود تحذيرات من تصاعد التوتر إذا استمر الجمود في المفاوضات، بما في ذلك احتمالات إعادة فرض العقوبات على إيران. كذلك كانت التوترات في الخليج العربي حاضرة في النقاشات، لا سيما ما يتعلق بأمن الملاحة البحرية في مضيق هرمز، الذي تمر عبره 20% من صادرات النفط العالمية، وهو ما دفع مجموعة السبع (G7) إلى تأكيد أهمية التعاون الدولي لعلاج كل هذه الأزمات عبر بيان صادر عن المجموعة على هامش أعمال المؤتمر.

5- تزايد أهمية البعد الأفريقي في الأمن العالمي: في إطار النقاشات الموسعة في مؤتمر ميونخ للأمن 2025، حظيت قضايا الأمن الإقليمي في أفريقيا باهتمام لافت؛ إذ يمثل تزايد الصراعات المسلحة والتهديدات الإرهابية تحدياً متصاعداً في عدد من دول القارة. وقد أكد المشاركون أهمية تعزيز التعاون بين أوروبا وأفريقيا لمواجهة هذه التحديات المشتركة، مع التركيز على المناطق الساخنة مثل منطقة الساحل والقرن الأفريقي. وتشير التقارير إلى أن الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل قد ارتفعت بنسبة 30% خلال العام الماضي؛ ما يهدد استقرار المنطقة بأكملها. في هذا السياق، شدد رئيس وزراء بوركينا فاسو في مداخلته على الحاجة إلى دعم دولي أكبر لتعزيز قدرات الأمن المحلي ومكافحة الجماعات المسلحة.

6- تصاعد تهديدات الأمن السيبراني: شكلت قضايا الأمن السيبراني أحد المحاور الأساسية في مؤتمر ميونخ 2025، في ظل ما اتسم به السياق الدولي من تزايد في عدد الهجمات الإلكترونية المرتبطة بالصراعات السياسية. ووفقاً لبعض التقديرات، شهد عام 2024 زيادة بنسبة 40% في الهجمات الإلكترونية ضد البنى التحتية الحيوية في أوروبا. وقد دفعت هذه التهديدات قادة الدول إلى مناقشة استراتيجيات جديدة لتعزيز الأمن السيبراني من خلال التعاون المشترك بين الحكومات والقطاع الخاص. وكان من أبرز المقترحات إنشاء "فريق طوارئ سيبراني أوروبي" للتعامل مع الهجمات السيبرانية بشكل فوري ومنسق.

مخرجات رئيسية

كانت الدورة الحالية من مؤتمر ميونخ للأمن كاشفة عن بعض التحولات العالمية عن طريق مخرجاتها ومسار النقاشات فيها، ولعل أهمها:

1- مؤشرات على نهاية حقبة الأمن الأوروبي التقليدي: شهد مؤتمر ميونخ للأمن إعلاناً صريحاً عن انتهاء نظام الأمن الأوروبي التقليدي الذي ساد منذ الحرب العالمية الثانية؛ حيث لم تعد أوروبا قادرة على الاعتماد التلقائي على الولايات المتحدة لحمايتها، بالرغم من استمرار عضوية الولايات المتحدة في الناتو؛ ففي ظل تصاعد التهديدات، حث وزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسيث، الدول الأوروبية من مقر الناتو في بروكسل على زيادة إنفاقها الدفاعي بشكل كبير، مؤكداً أن العبء الأكبر في دعم أوكرانيا يقع الآن على عاتق أوروبا.

2- الكشف عن التحولات في السياسة الأمريكية بشأن أوكرانيا: عكس المؤتمر وجود تحول كبير في الموقف الأمريكي تجاه أوكرانيا؛ حيث تستعد واشنطن وموسكو لعقد محادثات سلام في السعودية دون مشاركة كييف أو القادة الأوروبيين. هذا التحرك، الذي جاء بعد اتصال هاتفي بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، يثير مخاوف من إمكانية فرض تسوية على أوكرانيا دون موافقتها، وهو ما رفضه الرئيس زيلينسكي بشكل قاطع، مؤكداً أن أي اتفاق لا يشمل أوكرانيا لن يكون مشروعاً.

3- تأكيد ضرورة زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي: توافقت آراء المشاركين في المؤتمر على ضرورة رفع ميزانيات الدفاع في أوروبا لمواجهة تهديدات روسيا المتزايدة؛ حيث تجاوزت المساعدات الأوروبية لأوكرانيا بالفعل نظيرتها الأمريكية؛ حيث قدمت أوروبا 70 مليار يورو مساعدات مالية وإنسانية، إضافة إلى 62 مليار يورو مساعدات عسكرية. في المقابل، دعت شخصيات مثل دونالد ترامب إلى رفع الحد الأدنى لإنفاق الدول الأعضاء في الناتو إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مطلب يواجه تحديات اقتصادية وسياسية كبيرة.

4- التشديد على أهمية استعادة الاستقرار في الشرق الأوسط: على هامش مؤتمر ميونخ للأمن لعام 2025، جرت لقاءات وأحاديث جانبية مكثفة تناولت قضايا الشرق الأوسط الملحّة؛ حيث اجتمع وزراء خارجية مجموعة السبع (G7) لمناقشة الأوضاع في إسرائيل وغزة ولبنان وسوريا وإيران، مؤكدين التزامهم بتعزيز السلام والاستقرار في المنطقة. وقد أعرب الوزراء عن دعمهم وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، مشددين على أهمية تنفيذ بنوده بالكامل، بما في ذلك إطلاق سراح جميع الرهائن وتوسيع المساعدات الإنسانية في غزة. كما رحبوا بنتائج المؤتمر الدولي بشأن سوريا الذي استضافته فرنسا في 13 فبراير 2025، مؤكدين التزامهم المشترك تجاه الشعب السوري ودعمهم عملية انتقال سياسي شاملة وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254. بالإضافة إلى ذلك، عقد وزراء الخارجية المشاركون، كل على حدة، سلسلة من اللقاءات لنقل وجهات النظر المختلفة بشأن تسوية الأوضاع في الشرق الأوسط، وعلى رأسهم وزراء خارجية مصر والأردن وتركيا والسعودية؛ وذلك بالتزامن مع المقترحات الأمريكية المتنامية بشأن تهجير سكان غزة من أرضهم.

5- دفع أجندة مكافحة الإرهاب بالشرق الأوسط: على هامش المؤتمر كذلك، عقد رئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني، سلسلة لقاءات مع قادة ومسؤولين دوليين، أبرز خلالها دور الإقليم كلاعب أساسي في المنطقة. وقد ناقش بارزاني التحديات الأمنية، خاصة فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، وأكد أهمية التعاون الدولي لدعم الاستقرار في كردستان والعراق بشكل عام، كما تطرق إلى الملف السوري، داعياً إلى إشراك جميع المكونات في عملية الحكم لتحقيق السلام والاستقرار في سوريا.

6- مناقشة تأثير الذكاء الاصطناعي على الأمن العالمي: ناقش مؤتمر ميونخ للأمن 2025 التأثير المتزايد للذكاء الاصطناعي على الأمن العالمي؛ حيث سلط القادة الضوء على المخاطر المحتملة لاستخدامه في المجالين العسكري والسيبراني. وقد حذر الخبراء من أن الدول غير الديمقراطية، مثل الصين وروسيا، تستثمر بشكل مكثف في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز المراقبة وقمع المعارضة، كما هو الحال مع نظام "الائتمان الاجتماعي" الصيني، الذي يُستخدم لمراقبة المواطنين وتقييم سلوكهم، كما أُثيرت مخاوف بشأن احتمال توظيف الذكاء الاصطناعي في الهجمات السيبرانية، مثل الهجوم الذي تعرضت له أنظمة البنية التحتية الأمريكية عام 2023، الذي استخدم فيه ذكاء اصطناعي متقدم لاختراق أنظمة الأمن. وأوصى المؤتمر بضرورة تعزيز التعاون الدولي لوضع أطر تنظيمية تحكم استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال الأمني، مثل الجهود التي تقودها الأمم المتحدة لتطوير معايير أخلاقية وتقنية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في العمليات العسكرية.

7- تعزيز الشراكات الأمنية في منطقة الهندوباسيفيك: شهد المؤتمر اهتماماً متزايداً بتوسيع الشراكات الأمنية بين أوروبا ودول الهندوباسيفيك، خاصة في ظل التوترات المتزايدة في بحر الصين الجنوبي والمخاوف من تصاعد النفوذ الصيني في المنطقة، كما أُجريت مناقشات حول إمكانية إقامة تحالفات دفاعية جديدة، مثل الشراكة بين الاتحاد الأوروبي والهند في مجال الأمن البحري، التي تهدف إلى تأمين طرق التجارة في المحيط الهندي من التهديدات المحتملة، مثل القرصنة والهجمات السيبرانية. ويعكس هذا التوجه وعياً متزايداً بأن التهديدات الأمنية لم تعد تقتصر على أوروبا فقط، بل تمتد إلى مناطق أخرى تحتاج إلى تنسيق أمني أكثر فاعلية.

8- الاهتمام بانعكاسات أزمة الطاقة وتغير المناخ: لم تغب أزمة الطاقة عن طاولة نقاشات مؤتمر ميونخ 2025، بل كانت محوراً رئيسياً في ظل استمرار تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على إمدادات الغاز والنفط. وقد أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أهمية تسريع التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري. وتشير التقديرات إلى أن أوروبا ستزيد استثماراتها في الطاقة المتجددة بنسبة 25% خلال العامين المقبلين، وهو ما يعكس التحول التدريجي نحو استراتيجيات مستدامة؛ حيث تهدف هذه الخطوات إلى حماية المناخ، وليس هذا فقط، بل أيضاً تهدف إلى تعزيز الاستقلالية الاقتصادية والأمنية.

وعليه جرى التركيز على تعزيز استثمارات الطاقة المتجددة، مثل مشروع الربط الكهربائي بين المغرب وأوروبا، الذي يهدف إلى تصدير الطاقة الشمسية من شمال أفريقيا إلى أوروبا. إضافةً إلى ذلك، تم بحث فرص التعاون بين أوروبا ودول الشرق الأوسط في مجال الطاقة النظيفة، مثل اتفاقيات الطاقة الهيدروجينية التي أبرمتها ألمانيا مع دول الخليج؛ لضمان أمن الطاقة على المدى الطويل وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري التقليدي.

الخلاصة: اختتم مؤتمر ميونخ للأمن 2025 أعماله وسط توافق عام على أن العالم يواجه مرحلة جديدة من الاضطرابات الجيوسياسية والتحديات الأمنية المتزايدة؛ وذلك من خلال مناقشات مكثفة حول الحرب في أوكرانيا، ومستقبل الأمن الأوروبي، وتغيرات العلاقات عبر الأطلسي؛ حيث كشف المؤتمر عن تزايد الشكوك حول التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن أوروبا؛ ما دفع القادة الأوروبيين إلى إعادة تقييم استراتيجياتهم الدفاعية وطرح احتمالات زيادة الإنفاق العسكري، بجانب ذلك، أظهرت النقاشات الحاجة إلى تعزيز التحالفات الأمنية مع دول آسيا والمحيط الهادئ لمواجهة النفوذ المتزايد للصين، فضلاً عن ضرورة النظر إلى الأمن الأوروبي عبر امتداده الجغرافي ما وراء المتوسط، وما يرتبط بذلك من ضرورة تسليط النظر على أمن الشرق الأوسط وأزماته المزمنة.





 

المراجع:

يوسف داوود، 18.2.2025، ملامح حضور الأزمات العالمية في مؤتمر ميونخ للأمن 2025، إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية.

ب، ن ،14.2.2025، مؤشر مؤتمر ميونخ للأمن 2025 والتقرير السنوي المركز الأوربي لدراسات مكافحة الأرهاب والاستخبارات.

 

المقالات الأخيرة