التحـكيـــم الــدولـــي
فرع بنغازي

التحكيم إجراء عرفته المجتمعات القديمة ولجأت إليه لحسم الخلافات التي تثور فيما بينها. فتداولته كل من مصر القديمة وبابل وكذلك الاغريق متخذ هيئة مجالس دائمة للتحكيم، وصولاً إلى أواخر القرن الثامن عشر والتاسع عشر التي شهدت تطور مراحل التحكيم، بحيث ظهرت أهمية استخدام التحكيم الدولي  وتمثلت بانعقاد مؤتمرات لاهاي للتسوية السلمية للمنازعات الدولية 1899-1907، حيث تم تنظيم موضوع وإجراءات التحكيم، كما تم وضع هيكل محكمة التحكيم الدائمة. ثم أقرت عصبة الأمم الميثاق العام للتحكيم في عام 1924 والذي ساهم في توسيع نطاق التحكيم من حيث شموليته على كافة أنواع المنازعات، وتقليل من التحفظات التي تحد من التزامات الدول باللجوء إلى التحكيم.

وكون أن هذه الوسيلة لفض النزاعات متعارفة ومتداولة منذ القدم، بتأكيد اختلفت طبيعة تفسير مفهومه إلا أنها في نهاية المطاف جمعيها تصب في قالب تعريفي واحد. فمنها أنه وسيلة للنظر في نزاع بمعرفة شخص أو هيئة تلجأ إليه أو إليها المتنازعون مع التزامهم بتنفيذ القرار الذي يصدر في النزاع. كما تطرقت اتفاقية لاهاي لعام 1907، الخاصة بتسوية المنازعات الدولية، إلى موضوع التحكيم، حيث نصت "هدف التحكيم الدولي تسوية الخلافات بين الدول على اساس احترام القانون من قبل قضاة تختارهم هذه الدول نفسها. وينطوي اللجوء إلى التحكيم على التعهد بالخضوع إلى قرار التحكيم بحسن نية." أيضا تم تعريفه على أنه "عقد يتفق بموجبه شخصان أو أكثر كتابة، على أن يحيلوا إلى شخص أو أكثر، الفصل فيما بينهم في نزاع قائم فعلا، أو متوقع الحدوث في المستقبل، بخصوص تنفيذ عقد معين بدلا من الالتجاء الى القضاء، وإقرار المشرع له."  ملاحظة مع تعدد التعريفات ذات مغزى للتحكيم، فيتسم بخصائص أساسية أنه وسيلة قانونية في تسوية المنازعات الدولية وهو وسيلة تتم على أساس احترام القانون. كما أن التسوية بالتحكيم تقوم على إرادة الدول المتنازعة، وتكون التسوية بالتحكيم في المجال الدولي على أساس اتفاقي. 

ورد في ميثاق الأمم المتحدة  أن الوسائل السلمية لحل النزاعات تنقسم إلى ثلاث أنواع من الوسائل: وسائل دبلوماسية، وسائل سياسية، ووسائل قـضائية، وتـشمل الطرق الدبلوماسية: المفاوضات، المساعي الحميدة والوساطة والتحقيـق والتوفيـق، وفي حين الوسائل السياسية الالتجاء إلى المنظمات الدولية والإقليمية، وأما الوسائل القضائية أو القانونيـة فيقصد بها التحكيم والقضاء الدوليان. وبالتي يعتبر التحكيم واحداً من شطري التسوية القضائية للنزاعات الدولية.

قواعد التحكيم الدولي:

تستوجب عملية تسوية المنازعات عن طريق التحكيم قواعد مرسومة وواجب اتباعها في الإجراءات، وتشمل القواعد الأكثر شهرة قواعد غرفة التجارة الدولية ("المحكمة الجنائية الدولية"), محكمة لندن للتحكيم الدولي ("لندن للتحكيم الدولي"), المركز الدولي لتسوية المنازعات التابع لجمعية التحكيم الأمريكية ("ICDR"), وقواعد مركز سنغافورة للتحكيم الدولي ("SIAC") ومركز هونغ كونغ للتحكيم الدولي ("HKIAC") وقواعد غرفة ستوكهولم التجارية ("SCC") و قواعد المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار التابع للبنك الدولي ("ICSID") والتي تختص في حل منازعات التحكيم المتعلقة بالاستثمار او بموجب لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي ("الأونسيترال"). حيث نصت قواعد التحكيم والتسوية الودية للنزاعات الخاصة بغرفة التجارة الدولية على القواعد واجبة التطبيق على إجراءات التحكيم و القواعد القانونية واجبة التطبيق على موضوع النزاع. فيما يتعلق بالأولى فتخضـع إجـراءات التحكيم أمام هيئة التحكيم الى جميع القواعد المنصوص عليها والمتعلقة بغرفة التجارة الدولية وإذا خلت القواعد من الحكم المطلوب، تخضع للقواعد التي يتفق عليها الاطراف أو التي تقررها هيئة التحكيم في حالة غياب اتفاق الأطراف، في حين نصت القواعد القانونية فيما يتعلق بالنزاع على :

1 )يتمتع الأطراف بحرية الاتفاق على القواعد القانونية التي تطبقها هيئة التحكيم على موضوع النزاع. وفي غياب مثل هذا الاتفاق، تطبق هيئة التحكيم قواعد القانون الذي تعتبره ملائما. 

2) تأخذ هيئة التحكيم بعين الاعتبار أحكام العقد المبرم بين الطرفين، إن وجد، كما تأخذ بعين الاعتبار أي أعراف تجارية ذات صلة.

3) تتولى هيئة التحكيم سلطات التحكيم بالصلح، أو تقرر وفقا لقواعد العدل والإنصاف ويكون ذلك فقط في حالة اتفاق الأطراف على منحها تلك السلطات." وتبعاً لذلك جاءت بعد هذه القواعد عدة مراسيم دولية مؤكدة أهمية وجود قواعد تحكم كل قطر بقطره مع وجود بعض الإضافات التي تتناسب ومصلحة التحكيم في تلك الدولة والنظام العام فيها. فبعض الدول اشترط لتطبيق قواعد التحكيم على أراضيها في حالات إذا نص شرط التحكيم أو أي اتفاق اخر بين الأطراف على تطبيقها. أو أنه قد تمت الإحالة في العقد إلى غرفة التحكيم من أجل تطبيق هذه القواعد.

نشوء الخصومة في التحكيم وانقضائها: 

تبدأ عند اتخاذ أي طرف من الطرفين اجراء يشعر انه يريد طرح نزاع على الحكم، ويتم تبليغ أي الخصمين المتنازعين الحكم بإرادته بأعمال شرط التحكيم، او مشارطته، بل ويمكن تبليغ الطرف المتغيب عن طريق البريد. وعندها يكون لكلا الطرفين الحق في تقديم ما تحت حوزته من مستندات او شهادات او لوائح او مذكرات، مع إمكانية طلب تعيين خبراء إذا اقتضت الحاجة لذلك. في حين ينقضي التحكيم في الحالات الواردة: 

1. الانقضاء الطبيعي في حال صدر حكم التحكيم في موضوع او امر النزاع، وتعتبر النتيجة الطبيعية للاتفاق على التحكيم. 

2. الانقضاء الاتفاقي في حال اتفق الخصوم على انهاء التحكيم رضائياً فيما بينهم. 

3. إذا كان هناك بطلان في موضوع التحكيم، او استحالة تنفيذه.

4. إذا لم يصدر قرار التحكيم في المدة القانونية المقررة لصدوره من تاريخ القبول من هيئة المحكمين للنظر فيه. 

مع العلم ان التحكيم الدولي ليس بالتحكيم الأجنبي ولا يمتان ببعض أي صلة. فالتحكيم المحلي في الدولة معينة هو تحكيم أجنبي في الدولة أخرى. كذلك التحكيم الدولي يختلف عن التحكيم المحلي، فالتحكيم المحلي كل تحكيم يجري داخل دولة ما فيخضع التحكيم لقانون المكان الذي يتم فيه، سواء كان الطرفان من نفس البلد، أو من بلدان مختلفة أو أن واحدًا أو جميعًا من الدولة التي تم فيها التحكيم.

القانون المطبق على التحكيم:

حيث اختصاص محكمة التحكيم مقيد بنطاق موافقتها لأن إرادة الدول تكمن في جذور محكمة التحكيم، وبالتالي فإن المحكمة لا تحدد صلاحيات المحكم فحسب، بل وأيضاً القانون المعمول به. فقد نصت "القواعد النموذجية بشأن إجراءات التحكيم" على: 

1. في حالة عدم وجود أي اتفاق بين الطرفين بشأن القانون الواجب تطبيقه، تطبق المحكمة:

(أ) الاتفاقيات الدولية، سواء كانت عامة أو خاصة، التي تحدد القواعد المعترف بها صراحة من قبل الدول المتنازعة.

(ب) العرف الدولي كدليل على ممارسة عامة مقبولة كقانون.

(ج) المبادئ العامة للقانون التي أقرتها الأمم المتحضرة.

(د) القرارات القضائية وتعاليم أكثر رجال الدعاية المؤهلين تأهيلا عاليا من مختلف الدول، كوسائل فرعية لتحديد قواعد القانون.

2. إذا كان الاتفاق بين الطرفين ينص على ذلك، يجوز لهيئة التحكيم أيضا أن تقرر حسب الإنصاف والحسنى."

في حين يثور التساؤل عن طبيعة حال هذا التحكيم الدولي، وبالتالي فأن "حالات التي يكون فيها التحكيم دولياً إذا: 

1.كان محل عمل أطراف اتفاقية التحكيم وزمن انعقادها واقعا في دولتين مختلفتين. 

2. كان أحد الأماكن ادناه واقعا خارج الدولة التي فيها محل عمل الأطراف: 

أ. مكان التحكيم إذا نصت عليه اتفاقية التحكيم او وقع تحديده وفقا لها.

ب. أي مكان ينفذ فيه جزء هام من الالتزامات الناشئة عن العلاقة او المكان الذي يكون لموضوع النزاع أوثق صلة به.

ج. إذا اتفق الأطراف صراحة على ان موضوع اتفاقية التحكيم متعلق بأكثر من دولة واحدة.

د. بصفة عامة إذا تعلق التحكيم بالتجارة الدولية."

والخلاصة بان التحكيم كان أقدم وسيلة لحل النزاعات سلمياً في المجتمعات القديمة، وليس باستطاعة المجتمعـات الحديثة الاستغناء عنه، وتكمن إيجابيته في كونه قضاء مرن مفصّل على قياس موضوع النزاع، وينتج عنه حلول غير عدائية. أيضا يمكن باعتباره أداة لتحقيق العدالة فضلا عن طبيعته الاتفاقية، فالالتجـاء إلى التحكيم مرهون باتفاق الطرفين على طرح نزاعهم على من يرضونه محكماً بينهم، خاصة على مستوى القانون الدولي العام.



 

المراجع :

عبدالقادر عباس ، 15.12.2016 ، التحكيم التجاري الدولي واثاره ، مجلة الحقوق الانسانية.

(ب ، ن)، 3.2.2021 ، ما هو التحكيم الدولي ، الاكاديمية الدولية للوساطة والتحكيم.

المقالات الأخيرة