التحرك لتغيير النظام العالمي
فرع بنغازي

في إبريل 1955، اجتمعت كل من بورما والهند وإندونيسيا وباكستان وسريلانكا و24 دولة أخرى إفريقية وآسيوية، منها مصر، في باندونغ بإندونيسيا، متحدين معاً في عالم كان لا يزال يهيمن عليه الإرث الاستعماري وتوترات الحرب الباردة، ومدفوعين في الوقت نفسه برؤية مشتركة فيما يخص مفاهيم السيادة والسلام والعدالة. 

بعد سبعين سنة على هذا الحدث المحوري، والذي أبرز أن الدول في جميع أنحاء العالم يجب أن تتمتع بحقوق متساوية فيما يتعلق بالسلام والأمن والازدهار. فقد عبّرت غالبية دول العالم - التي تُعرف الآن بالجنوب العالمي- في باندونغ عن رأيها، ووقفت معاً لتصحيح أخطاء الماضي ورسم ملامح المستقبل.

في عام 2025، نجد أن النظام العالمي يمر بحالة فوضى، حيث يعاني عنفاً غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، فقد كثرت الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي، ووصلت نفقات التسلح إلى مستويات قياسية، كما تُطرح برامج جديدة لتحديث الأسلحة النووية الخطرة وغيرها من أسلحة الدمار الشامل. في الوقت نفسه، تلوح في الأفق تحديات عالمية جسيمة منها: تغير المناخ، وندرة المياه، وثقل أعباء الديون؛ مما يؤثر بشكل خاص على العديد من مناطق العالم النامي.

"مبادئ باندونغ" لم تتحقق 

في ذكرى "باندونغ" من الأهمية استدعاء مبادئها، والتي دعت إلى احترام حقوق الإنسان والالتزام بمقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه المتعلقة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام سلامتها الإقليمية، والمساواة بين جميع الأعراق. أبرزت كذلك، تلك المبادئ، حق الدول في الدفاع عن نفسها، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، كما دعمت الامتناع عن استخدام الدفاع الجماعي لخدمة مصالح القوى الكبرى أو ممارسة الضغط على الدول الأخرى. شددت أيضاً "مبادئ باندونغ" على الامتناع عن استخدام القوة ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة. وأخيراً، دعت إلى حل النزاعات الدولية بالوسائل السلمية وتعزيز المصالح المشتركة، وأقرّت ضرورة احترام العدالة والالتزامات الدولية.

لقد أدت حركة عدم الانحياز، التي انبثقت من اجتماع باندونغ، دوراً حاسماً في مناصرة حقوق الدول النامية. فقد دعمت جهود إنهاء الاستعمار، وقاومت التدخلات العسكرية الخارجية، ودفعت نحو تحقيق العدالة الاقتصادية.

بعد سبعين عاماً من مؤتمر باندونغ، لا يزال الوعد بنظام عالمي عادل ومنصف بعيد المنال، فلا تزال هياكل القوة العالمية تعكس أوجه عدم المساواة التي سادت في الماضي. فمن جهة، اتسعت الفجوة الاقتصادية، حيث لا تزال الدول النامية حتى يومنا هذا تحت رحمة نظام مالي عالمي مُصمَّم لمصلحة فئة قليلة. بالإضافة إلى أن مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لا تزال تفرض شروطاً تعوق النمو المستدام بدلاً من دعمه؛ بل وأصبحت أزمة الديون في أجزاء كثيرة من الجنوب العالمي تمثل شكلاً جديداً من أشكال القهر الاقتصادي.

من جهة ثانية، تتابعت الصراعات والحروب المدمرة من الشرق الأوسط إلى إفريقيا، ومن آسيا إلى أمريكا اللاتينية، وخلّفت تلك الحروب، التي تُغذّيها المصالح الخارجية، ملايين النازحين، واقتصاداتٍ مُدمّرة، وأجيالاً بأكملها محرومة من المستقبل. ومن جهة ثالثة، تعرض مبدأ السيادة إلى الانتهاك المستمر؛ حيث يتم استخدام التدخلات العسكرية والإكراه/القسر السياسي والعقوبات الاقتصادية كأدوات لفرض سياسات على الدول الأضعف، بينما تفلت الدول القوية من العقاب. من جهة رابعة وأخيرة، يتفاقم تهديد الظلم المناخي لوجودنا ذاته؛ حيث تدفع الدول الأقل مساهمة في الاحتباس الحراري ثمناً باهظاً، بينما تواصل الدول الصناعية استغلال الموارد دون محاسبة.

 

مصداقية "العدالة".. والنضال الفلسطيني 

إذا كان لمؤتمر باندونغ من درس في ظل السياق العالمي الراهن، فهو أن العدالة يجب أن تُشكل أساس العلاقات الدولية. ولا تقتصر هذه العدالة على تحقيق الإنصاف الاقتصادي فحسب؛ بل يجب أن تتضمن أيضاً التزاماً راسخاً بالسلام وحل النزاعات وسيادة القانون، بعيداً عن المعايير المزدوجة.

لقد دعا مؤتمر باندونغ بشكل بارز إلى حل النزاعات سلمياً، وهو مبدأٌ أكثر أهمية في عالم اليوم. فعلى الصعيد العالمي، لا تزال الكثير من النزاعات الدولية قائمة، بعضها متجذر في مظالم تاريخية، والبعض الآخر يُغذّيه التدخل الخارجي والتنافس على الموارد؛ لذا يجب على دول الجنوب العالمي أن تقود الجهود الرامية إلى تعزيز الدبلوماسية بدلاً من الحرب، والتفاوض بدلاً من الإكراه والقسر، والمصالحة بدلاً من الانقسام. 

تحتاج دول الجنوب أيضاً إلى تعزيز المنظمات الإقليمية وآليات بناء السلام لحل النزاعات دون تدخل أجنبي؛ حيث ينبغي أن تحل الدبلوماسية الوقائية والوساطة محل العسكرة كردِّ فعلٍ تلقائيٍّ للنزاعات. فالسلام لا يمكن أن يكون انتقائياً؛ فإذا أردنا أن ندعو إلى حل النزاعات سلمياً، فيتعين علينا أيضاً أن نطالب بتطبيق هذا المبدأ عالمياً دون تحيز.

ولا يوجد مثال يتجلى فيه فشل النظام الدولي أكثر من مثال النضال الفلسطيني المستمر من أجل الاستقلال. فقد عانى الشعب الفلسطيني لأكثر من 75 عاماً من الاحتلال والتشريد والانتهاكات الممنهجة لحقوقه؛ لذا تُلزمنا مبادئ باندونغ - تقرير المصير، والسيادة، والعدالة- بالوقوف بحزم لدعم الدولة الفلسطينية.

من هنا، يجب على المجتمع الدولي معالجة العديد من القضايا الحاسمة، على رأسها: رفض الاحتلال والتوسع الاستيطاني والتشريد القسري، الذين ينتهكون القانون الدولي، دعم إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، على أساس الحدود المعترف بها دولياً. أضف لذلك، القضاء على ازدواجية المعايير في مواجهة النزاعات الدولية، حيث يتعين على المجتمع الدولي الذي يتحدث عن السيادة والسلامة الإقليميين أن يطبق هو نفسه هذه المبادئ بالتساوي على فلسطين. فمن دون العدالة لفلسطين؛ تصبح مصداقية المجتمع الدولي على المحك.

إصلاح قانوني.. وتحرك مطلوب 

وعلى الرغم من أن احترام القانون الدولي هو من صميم "مبادئ باندونغ"؛ فإن العالم اليوم للأسف يشهد تآكلاً خطراً لهذه المبادئ والأسس؛ ومن المفارقات أن الدول التي صاغت قواعد القانون الدولي غالباً ما تكون هي أول من ينتهكها؛ إذ أصبحت القوة، لا القانون، هي التي تُحدد مصير الأمم؛ حيث صارت العدالة الانتقائية تُقوّض الاستقرار العالمي. 

على سبيل المثال، فإن جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان تُحاكَم في بعض الحالات بينما تُتجاهل في أخرى تبعاً للملاءمة السياسية، كذلك فإن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لا يزال عتيقاً/بالياً وغير ديمقراطي. وللأسف، باتت العقوبات والحصار والإجراءات العسكرية تُستخدم كأسلحة سياسية، تُعاقب الدول الأضعف بينما تحمي الدول الأقوى؛ لذا لا بد من تغيير هذه الممارسات؛ حيث يجب على دول الجنوب العالمي أن تتحد للمطالبة بنظام قائم على القواعد يُطبّق على الجميع، وليس فقط على الضعفاء. 

تتطلب "مبادئ باندونغ" إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ليعكس واقع العالم اليوم، مع تمثيل دائم لإفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالم العربي، والاحترام العالمي للسيادة، وليس فقط عندما تُناسب قوى معينة، وأخيراً التمسك العادل بالقانون الدولي، دون إعلاء أية دولة فوقه. فالقانون إذا لم يُطبق دون تحيز أو محاباة، فإنه يتوقف عن كونه قانوناً؛ بل يُصبح أداة في يد الأقوياء.

بعد سبعين عاماً من مؤتمر باندونغ؛ يجب على دول الجنوب العالمي أن تتولى زمام المبادرة مجدداً لإعادة تشكيل النظام العالمي. فالوقت قد حان لرفض وهدم هياكل السلطة البالية، وإنشاء نظام يُعطي الأولوية لضمان العدالة الاقتصادية، والتجارة العادلة، والتنمية المستدامة، وتخفيف أعباء الديون، وحل النزاعات بالدبلوماسية، لا بالحرب، وإعطاء الحق للشعوب، بمن فيهم الفلسطينيون، في تقرير المصير. والأهم، إقامة نظام حقيقي قائم على القواعد، يحترم السيادة والقانون لجميع الدول دون استثناء.

ونظراً لأن دول الجنوب أغلبية في النظام العالمي، وليسوا مجرد مشاركين فيه، فمن الأهمية أن تعمل معاً على تغيير هذا النظام وإعادة تشكيله وقيادته. إن عليهم أن يعيدوا اليوم إحياء روح مؤتمر باندونغ ليس كحدث تاريخي، بل كدعوة للتحرك والتغيير ورفض النظام العالمي الذي تسيطر فيه بعض الدول طوال الوقت بينما تخضع أخرى، كما تُطبق فيه سيادة القانون بشكل انتقائي ويقدم فيه السلام والسيادة كامتيازاتٍ لقلةٍ من الناس، بينما يُحرم منها الآخرون. لقد حان الوقت لإقامة نظامٍ عالميٍّ جديد عادلٍ وشاملٍ، يعكس جميع الأمم، لا القلةَ القوية فحسب. فلنتحد لبناء هذا العالم الجديد الذي يسوده العدل والسلام والمساواة.





المراجع:

نبيل فهمي ، 17.4.2025، إحياء "روح باندونغ".. التحرك لتغيير النظام العالمي، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.

أحمد يوسف أحمد،30.4.2019، النزوع إلى التعددية في قمة النظام العالمي المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة .

المقالات الأخيرة