تشير
التطورات الأخيرة في مجال التكنولوجيا إلى أن أهمية التقنيات المتقدمة في تغيير
موازين الحروب في المستقبل لا يمكن تجاهلها. الذكاء الاصطناعي، الأسلحة
السيبرانية، تقنيات الحرب النفسية والمعلوماتية، الطائرات بدون طيار، الأسلحة
الذكية، والدفاعات الجوية والصاروخية المتطورة، كلها عوامل محورية ستحدد كيفية
إدارة وكسب الحروب في العقد المقبل.
بداية
من حرب أفغانستان إلى العراق، وأخيراً أوكرانيا، يتزايد اهتمام أطراف الصراعات
الدولية بالبيانات في تخطيط وإدارة العمليات العسكرية، لأنها تجعل الهجمات أكثر
فعالية وتحقيقاً للأهداف بأقل الخسائر، ويتعاظم هذا الاهتمام مع إدراك الخبراء بأن
الحروب القادمة هي معارك ذات تقنية عالية، مما يتطلب من القوى العظمى ملاحقة
التقدم التكنولوجي من أجل تعزيز مراكزها السياسية والاقتصادية والتغلب على منافسيها
في الساحة الدولية.
في
هذا الإطار، نشر الباحثان إميلي هاردينغ، وهارشانا غورهو، تقريراً في مركز
الدراسات والاستراتيجيات الدولية "CSIS"
في إبريل 2023 بعنوان: "سبع تقنيات حاسمة لكسب الحروب القادمة". ويرى
التقرير أن التقنيات المطروحة قد تُحدث فارقاً كبيراً في نجاح الولايات المتحدة
وحلفائها داخل سلسلة من الصراعات على مدى العقد المقبل. حيث يفترض التقرير أن
"خصوم" الدول الغربية مثل الصين يسعون إلى إعادة تشكيل هيكل القوة
العالمية وتقوية نفوذهم العالمي، مما يعزز أهمية التكنولوجيا في إحداث فارق في
قدرة الدول على التأثير في الساحة الدولية.
بناءً
عليه، يحدد التقرير القدرات التي ستحتاجها الولايات المتحدة في عصر المنافسة
المتوقع، وكذلك التقنيات اللازمة لتأمين تلك القدرات وهي تتطلب شراكة بين القطاعين
الحكومي والخاص، علاوةً على بناء قوات قتالية عالية المستوى وقوات أخرى بارعة في
التكنولوجيا ما يصنع الفارق بين النصر أو الهزيمة.
أشكال
التقنيات:
ينطلق
التقرير من أن طبيعة النزاعات في المستقبل قد تكون إما تدابير لا ترقى أن تكون
حرباً بالمعنى التقليدي، كالهجوم الخاطف لإنشاء أمر واقع، وهنا ستحتاج الولايات
المتحدة تعزيز قدرات مثل: الاستشعار والمعالجة والابتكار واتخاذ القرارات بسرعة أو
يحدث انفجار ساخن، وهو نهج معاكس للسابق حيث سيشمل قدرة هائلة على الضربات
الدقيقة، والسيطرة على الاتصالات. ومن ثم ستحتاج الولايات المتحدة إلى تعزيز قدرات
متمثلة في وجود جيش سريع الحركة وأنظمة اتصالات مرنة وآمنة ذات قواعد فضائية
وأرضية وتحت سطح البحر.
على
أساس ذلك، فإن القدرات اللازمة للتعامل مع النزاعات القادمة سواءً أكانت تدابير
بسيطة أم انفجاراً ساخناً تحتاج إلى إحراز تقدم كبير في التقنيات الرئيسية. وقد
خلُص فريق باحثي الأمن القومي بمركز الدراسات والاستراتيجيات الدولية إلى أكثر من
30 تقنية في هذا الشأن، ثم تمت تصفيتها إلى سبع تقنيات رئيسية تمثل أولوية للدول
العظمى خلال العقد المقبل.
ويصف
التقرير التقنيات السبع بـ “تقنيات الانطلاق السريع"، وهي تلبي حاجة ملحة
وتحتاج مهلاً طويلة للبحث والتطوير وضرورة المبادرة باقتنائها، وهي: تكنولوجيا
الكم، والهندسة الحيوية، وشبكات الاتصالات الآمنة والمتوفرة و"التقنيات
التابعة"، وهي: البطاريات عالية الأداء، والذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي
"AI/ML"، والتكنولوجيا المعتمدة على الفضاء، والروبوتات. ثم قسّم
الباحثون حالات استخدام هذه التقنيات إلى ثلاث فئات متداخلة:
1) التقنيات الأساسية، وهي مسؤولة عن تعزيز
وظائف الأمن القومي، إلى جانب دعم التقدم في القطاعات الأخرى. وتتضمن ما يلي:
-
الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي: تعمل هذه التقنية على تسريع معظم الوظائف
الأساسية لجهاز الأمن القومي، كالقدرة على معالجة مجموعات البيانات الضخمة بشكل
أكثر فاعلية، ومساعدة صانعي السياسات على فهم الاتجاهات المعقدة، ودعم القوات
العسكرية في إدارة ساحة معركة شاملة، بما في ذلك المركبات ذاتية القيادة. فعلى
سبيل المثال، أظهر الاختبار التجريبي لـ “ChatGPT"
أن أنظمة الذكاء الاصطناعي يمكنها اختراع المعلومات وتقديمها كحقائق. في هذا السياق،
يشير التقرير إلى ضرورة إجراء اختبارات وتقييم مكثف لأنظمة "AI/ML" قبل أن تستخدمها وزارة الدفاع أو أقرانها في مهام الأمن
القومي.
-
تكنولوجيا الكم: توفر هذه التقنية أماناً إضافياً للاتصالات كما أنها ستكون أساساً
لعمل الذكاء الاصطناعي.
-
الهندسة الحيوية: تعمل هذه التقنية على إحداث تغييرات في التصنيع والصحة وكذلك
الأسلحة. فقد تُستخدم - على سبيل المثال - في تعقب مصدر الهجمات البيولوجية؛ مما
يساعد على صياغة سياسات فعالة للرد على الهجوم.
2) التقنيات الاستراتيجية، وهي تمكن صانع
القرار بشكلٍ أفضلٍ من تجنب المفاجآت الاستراتيجية، أو خلق ميزة استراتيجية للدولة
على المنافس. وتتضمن ما يلي:
-
الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي: توفر هذه التقنية ميزة استراتيجية من خلال تزويد
صانعي القرار بمعلومات أفضل وبسرعة أكبر ثم تنفيذ تلك القرارات بكفاءة أكبر. حيث
سيتمكن "AI/ML" من مراجعة "تيرابايت" من
البيانات، مما يؤدي إلى تسريع تسليم المؤشرات المهمة والتحذير لواضعي السياسات. في
هذا الإطار، يُمكن اللجوء إلى طائرات الاستطلاع من دون طيار للقيام بمهام
استخباراتية أو عسكرية.
-
التكنولوجيا المعتمدة على الفضاء: إن التقدم في الاتصالات الفضائية يساعد على
إنشاء شبكات اتصالات مرنة. وبالفعل تتخذ الحكومة الأمريكية خطوات نحو الحصول على
أجهزة استشعار وبيانات فضائية إضافية. حيث يستثمر مكتب الاستطلاع الوطني في الصور
الفائقة الطيفية من الفضاء، والتي تم جمعها من قبل كل من الأصول الحكومية
والتجارية.
-
شبكات الاتصالات الآمنة والمتوفرة: وهي تقنية ضرورية للقتال مع خصم مثل الصين التي
من المتوقع أن تسعى إلى تعطيل الشبكات الأمريكية بهجمات حركية أو عمليات
إلكترونية. علاوةً على ذلك، يجب افتراض أن أي عناصر بنية تحتية مملوكة أو مصنعة من
قبل الشركات الصينية هي معرضة لخطر التدمير.
3) التقنيات التكتيكية: وهي تحدث فارقاً
تكتيكياً في ساحة المعركة الفعلية، أو الافتراضية، أو جمع المعلومات الاستخباراتية
وتحليلها على طول نطاق الصراع، وتتضمن ما يلي:
-
الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي: تساعد نماذج التدريب والمحاكاة التي تدعم "AI/ML" الأفراد على تحمل الكثير من عبء القيادة عن قائد ساحة
المعركة، فيمكنه على سبيل المثال إرسال سرب طائرات من دون طيار لجمع المعلومات،
وتحديد الأهداف والعناصر ذات الأهمية القصوى، مما يوفِّر مزيداً من الوقت للتركيز
على الأولويات الأكثر إلحاحاً. وبالنسبة للعمل الاستخباراتي، يُمكن أن يساعد
"AI/ML" في المراقبة التقنية في كل مكان، علاوةً على إمكانية
استخدام تقنية "deepfake" لإنشاء هويات وهمية للضباط.
-
الروبوتات: يُمكن للروبوتات والمركبات الأرضية أو البحرية أو الجوية المستقلة أن
تساعد في التخلص من العبوات الناسفة أو توصيل الوقود أو القيام بمهام الاستطلاع
بدلاً من البشر، مما يقلل من الخسائر. كما يمكن أيضاً للروبوتات المساعدة في
التصنيع والاختبار وإدارة المستودعات.
-
الهندسة الحيوية: تؤدي دوراً مهماً ليس فقط في الحفاظ على صحة الجنود وتحسين
نشاطهم، ولكن أيضاً يمكن استخدامها في استهداف الأفراد أو المجموعات السكانية
الصغيرة، فعلى سبيل المثال، يمكن تصميم أجهزة استشعار حيوية لتمييز عناصر أو أفراد
معينين وتتبع تقدمهم أو التحقق من هوياتهم، أو إنشاء أسلحة متطورة مثل: تطوير
مسببات الأمراض المعدلة وراثياً والتي لا يتمتع الإنسان بمناعة طبيعية ضدها والتي
تقاوم اللقاحات.
-
البطاريات عالية الأداء: وهي تقنية ضرورية ولاسيما وأن البطاريات طويلة الأمد
ستُشغل كل شيء بدءاً من جهاز الاتصال الذي يحمله الجندي في المعركة إلى الطائرات
من دون طيار والمركبات التي تعيش تحت البحر لفترة طويلة، علاوةً على تكنولوجيا
الفضاء المصغرة للأقمار الاصطناعية. على جانب آخر، تساعد البطاريات طويلة الأمد في
عمل أجهزة المراقبة والاتصالات السرية. وغالباً ما يتم إعادة شحن هذه البطاريات من
خلال حركة الأمواج أو الطاقة الشمسية.
آليات
الامتلاك والرعاية:
حدد
التقرير مجموعة آليات لتمكين الولايات المتحدة من امتلاك أو الحصول على تقنيات
الحروب القادمة، وهي:
-
إنشاء شبكات اتصالات آمنة ومتوفرة وذاتية الإصلاح، إذ يجب أن يكون هذا الأمر على
رأس أولويات حكومة الولايات المتحدة، كما من الضروري تعزيز التشغيل البيني مع
الأنظمة الحالية والعمل مع حلف "الناتو" وأنظمة الاتصالات الأخرى
الحليفة.
-
تشجيع الاهتمام الفكري بعلوم تكنولوجيا الكم وتحفيز الشباب على بناء المهارات
والمعرفة الكمية ذات الصلة. كما يمكن لوزارة الدفاع ومجتمع الاستخبارات الأمريكي
رعاية علماء البيانات للعمل مع شركاء الصناعة الذين يعملون في علم الكم من أجل
تعزيز الوعي وتبادل المعلومات على الجانبين.
-
قد يستخدم خصوم الولايات المتحدة تطبيقات أسلحة حيوية ضارة، وبالتالي على الإدارة
الأمريكية تخصيص موارد واسعة لفهم الاستخدامات المحتملة للهندسة الحيوية، بما يكفي
لإنشاء معايير حاكمة أو الدفاع الفعال.
-
بالرغم من أن القطاع التجاري الخاص يعمل على إنشاء بطاريات مصغرة طويلة الأمد
ومستدامة، فإن هناك حاجة للمزيد من البطاريات طويلة الأمد والأكثر استقراراً
والخالية من الحرارة، خاصةً البطاريات التي لا تتحلل عند تعرضها للماء أو درجات
الحرارة الشديدة أو البرودة. لذلك، فإن شراء الحكومة لعدد من المنتجات من شركات
البطاريات المبتكرة يدفع إلى مزيد من الاستثمارات الخاصة.
-
إنشاء بروتوكولات قوية حول أمن وسلامة البيانات، ودعم تطوير واكتساب الذكاء
الاصطناعي والتعلم الآلي "AI/ML"،
لكن من المهم أولاً لوزارة الدفاع تحديد مجموعة واضحة من حالات استخدام "AI/ML"، ثم بعد ذلك إبلاغ تلك الاحتياجات بوضوح للشركات الناشئة
والصناعات التي تتطلع إلى دخول سوق الدفاع.
-
ابتكار وسائل لتشجيع القطاع الخاص في مجال التكنولوجيا المعتمدة على الفضاء، وذلك
عبر إنشاء حزم أجهزة استشعار حساسة ومعالجة البيانات وكذلك تشجيع تطوير مجموعة
متنوعة من أجهزة الاستشعار.
-
تشجيع التنافس بين الشركات لابتكار روبوتات قادرة على إنجاز مهام في بيئات قاسية
والقدرة على التصرف الفعال عند فقد الاتصال. على جانب آخر، على الحكومة الأمريكية
التعاون مع شركاء الصناعة الذين استطاعوا الوصول إلى حلول لمشاكل لوجستية معقدة
بمساعدة الروبوتات، واستكشاف البدائل المطروحة وإمكانية دمجها مع ممارسات وزارة
الدفاع.
-
يجب على وزارة الدفاع ومجتمع الاستخبارات استبدال سياسة شراء القدرات والتقنيات
بالتطوير والابتكار، كما يجب تعزيز التنسيق مع كيانات القطاع الخاص في تطوير
التقنيات، ولاسيما لما يتمتع به القطاع الخاص من توافر السيولة والمواهب، إلى جانب
افتقاره للقيود والقواعد التي تلزم الحكومة الفدرالية.
ختاماً، يوصي التقرير الحكومة الأمريكية بـ “الانطلاق بسرعة" نحو ثلاث تقنيات بالغة الأهمية هي الهندسة الحيوية وشبكات الاتصالات الآمنة وتكنولوجيا الكم. وخلال هذا الانطلاق، عليها إجراء بحث قوي بالشراكة مع القطاع الخاص. ثم بعد ذلك، يمكن الاهتمام بأربعة مجالات: (أجهزة الاستشعار الفضائية، والبطاريات طويلة الأمد والروبوتات والذكاء الاصطناعي/التعلم الآلي). وفي هذه القطاعات، يكون الاستثمار الخاص قوياً، حيث سيؤدي تشجيع الاستثمار على إنشاء منتجات فعالة ذات استخدام حيوي. وقد يؤدي هذا النهج الأمريكي المقترح إلى قلق الخصوم من اكتساب الولايات المتحدة لأي ميزة استراتيجية، مما يُعد رادعاً لهم وفقاً للتقرير.
المراجع
:
منى
أسامة ،31، 7، 2023،
التقنيات السبع لكسب الحروب في العقد المقبل، مركز المستقبل.
مارك
كيميت، 28.12.2023، كيف تغير المسيّرات طبيعة الحروب وساحاتها؟، صحيفة الشرق
الأوسط