الجزء الثاني:
المطلب الثاني: علاقة مفهوم الأمن بمفهوم
السلام
قبل الحديث عن إسهامات المنظرين حول مفهوم
الأمن نجد من الضروري الفصل بين مفهوم الأمن ومفهوم السلام باعتباره مفهوما ملحقا
به.
يرتبط مفهوم السلام مع مفهوم الأمن في كثير من
القراءات حتى إنه في كثير من الحالات يستعمل أحدهما مكان الأخر للدلالة على حالة
ما، على اعتبار أنهما مرتبطان بمفهوم القوة، غير أن الاستعجال الموضوعي يشير إلى
الاختلاف الواضح بينهما، فعلى سبيل المثال نسمع كثيرا عن ” حركات السلام ” ولا
نسمع عن “حركات الأمن “، وفي المقابل نجد الحكومات عادة ما تستعمل لفظة ” المشاكل
الأمنية ” ولا تستعمل لفظة ” مشاكل السلام”، وهو ما يعني وجود خلط مفاهيمي بين
المصطلحين ناتج عن التداخل في المعاني بين المصطلحين، لكن ومع الحركة التوجيهية
التي حدثت سنوات الثمانينيات في الحقول المعرفية منها الأمن أصبح الحديث عن “بحوث
السلام والأمن ” كمجال مشترك في الدراسات الاستراتيجية والأمنية، ما يعني في ذات الوقت أنه تم الفصل
بين المصطلحين ليستقل كل مصطلح بمعناه الخاص به دون تشبيك لهما.
وإذ نحن نبحث في الارتباطات بين المفهومين كان
يجب سحب المفهومين على المجالية التاريخية التي من شأنها أن تزودنا من خلال سياق
مركزية المفهومين في التعبير عن الأحداث بالفروقات الواردة بينهما سواء كان ذلك من
خلال المعنى أو من خلال السياق الحدثي.
وعليه يشير السياق التاريخي لمفهوم ” السلام ”
إلى الاستقرار الذي يدل على غياب العنف من خلال ضبط النظام ووجود سلطة مركزية
قائمة على أساس قبول الهيمنة والعدالة التوزيعية.
كما كانت الحرب هي القضية الأولى للسلام على مر
العصور، وكلما كانت الحرب تراجع السلام وبالتالي ارتبط وفقا لهذا مفهوم ” السلام ”
بمفهوم ” الأمن الخارجي ” على الأقل بسياق مفردات القرن الثامن عشر، وعلى الرغم من
أن الحرب كانت قديمة قدم الإنسان، إلا أن مفهوم السلام بالمعنى الاصطلاحي له كان
حديثاً ووجد مع العصر التنويري وأصبح يروج له كنقيض للحرب بينما يشير الأمن كمصطلح
نقيض ” للخوف” وعليه فقد عرف “السلام من خلال المجتمع الهادئ – المجتمع الدولي أو
المجتمع الداخلي- أو المجتمع الساكن وبالتالي يكون المعنى الجوهري للسلام وفقا
لسكون المجتمع وحراكه
بينما يعرف الأمن من خلال غياب الخوف من أن
تكون الدولة محل تهديد خارجي بحسب سياق وخصوصية الحقبة أنداك، وهو ما سيتم التفصيل
من خلال إسهامات منظري العلاقات الدولية والدراسات الأمنية.
الخارطة المفاهيمية للأمن وفق إسهامات منظري
العلاقات الدولية والدراسات الأمنية:
الأمن وفقاً للأستاذ “ستيفن وولت، Stephan Walt “
في مقاله “النهضة في الدراسات الأمنية” الذي
حاول “ستيفن وولت” من خلاله مراجعة العديد من المنطلقات في الدراسات الأمنية؛ إذ
يرى أن الأمن هو في الحقيقة كل ما يتعارض مع الحرب، “وهو التعريف الذي يقترب من
تعريف الأستاذ “جوزيف ناي”
“Jozef Nye “ والأستاذ “لين
جونس”
“Lyn Jonce“- إذ يقول أن الأمن
يمكن أن يعرف عن طريق دراسة التهديدات واستخدام القوة العسكرية”، وهو ما يدل على
أن الأمن يعرف من خلال القوة، وأن مفهوم الأخيرة متضمن في مفهوم الأمن، خاصة وأن
مفردات ومجريات العلاقات الدولية حينها كانت تستند إلى مفاهيم القوة خاصة العسكرية
منها.
غير أن هذه النظرة الضيقة والمختزلة لمفهوم
الأمن حسب “وولت” دفعته إلى إعادة مراجعته بإدخال عناصر تعريفية جديدة وتدعيمه
ليكون أكثر دقة وتحررا عن المصطلحات الأخرى المصاحبة مثل: مراقبة التسلح،
والدبلوماسية، وإدارة الأزمات، التي تعتبر عنده عناصر تكميلية لمفهوم الأمن تزده
قوة في الدلالة عن المعاني المقصودة منه، ذلك أن القوة العسكرية ليست هي الضامن
الوحيد للأمن ولا تعبر عنه، من منطلق وجود تهديدات لا يمكن التعامل معها بالقوة
العسكرية كالمشاكل المتعلقة بالمناخ والصحة والهجرة غير الشرعية…إلخ.
إن توصيف الأمن بهذا المعنى المرتبط بالتهديدات
في شقها العسكري فحسب يعيق النقاش الموضوعي حول المفهوم الموسع له، ذلك أن
التهديدات التي تتهدد الوحدة المرجعية والتي تحدث عنها “وولت” هي في حدّ ذاتها
تطرح إشكالية هل هي واقعة ذاتيا أم موضوعيا، وهل هي إيديولوجية أم غير ذلك، على
الرغم من أن “وولت” سعى لتوسيع المفهوم واجتهد في ذلك عبر تجاوز النظرة التقليدية
الستاتيكية له غير أنه لم ينجح في إخراجه تماماً من الثنائية الإستراتيجية الأمنية
المتعلقة بالنظرة العسكرية المرتبطة بالدولة والقوة. التي نصت عليها الواقعية،
وهذا في الحقيقة ليس إخفاقاً بقدر ما هو التزام بما نصت عليه مجريات العلاقات
الدولية حينها.
هنا ندلل على أن المفارقة الموجودة عند “وولت”
تكمن في اعترافه بوجود العديد من المظاهر غير العسكرية مثل، الفقر والجريمة
المنظمة والأسباب الهيكلية غير القابلة للرصد لبعض التهديدات التي يمكنها أن تسحب
في شكل كرة الثلج، كل ما يمكنه أن يشكل تهديدا للأمن مثل التلوث والأزمات
الاقتصادية والمجاعة من جهة، ومن جهة أخرى نجده ينتقد إدخال العناصر غير العسكرية
مثل مشكلات البيئة والمناخ في أجندة توسيع مفهوم الأمن، وهذا كتبرير لما من شأنه تدمير البناء الفكري المتماسك لحقل
الدراسات الأمنية.
وعلى هذا الأساس حاول “وولت” استدراك تطورات
البيئة الدولة أثناء حديثه في مقاله: “النهضة في الدراسات الأمنية” التي ضمنها
توسيع مفهوم الأمن غير أنه احتفظ بالمفهوم العسكري التقليدي له الذي يعتمد القوة
كمؤشر أساسي ومحوري لتوصيف الإشكالية الأمنية ومن ثمة مفهوم الأمن، وقد أنتج
التناقض الوارد في تعريف “وولت” – التوسع مع الحفاظ على المفهوم العسكري المركزي
له- الصدام بين الرغبة في الحفاظ على
القوة كمحدد أساسي في تفسير تفاعلات السياسة الدولية، والتطورات الموضوعية الجديدة
المحددة لتفاعلات السياسة الدولية من خلال ظهور فاعلين غير نظاميين في هذه السياسة
استطاعوا توجيه المسألة الأمنية نحو أبعاد غير عسكرية.
مفهوم الأمن من خلال طرح الأستاذة “هيلقا
هافتادورن”
Helga Haftedorn: التوسيع في
اطار مفهوم قديم
ترى الباحثة الألمانية “هيلقا” أنه من الضروري
مراجعة المفهوم التقليدي للأمن؛ إذ تقول
مفهوم الهوبزيينن والكانطيين للأمن لم يعد كافياً لشرح برادايم الأمن، ولم يعد
يقدم تفسيراً مرضياً لتغيرات العلاقات الأمنية التي أصبحنا نشهدها في الكثير من
أجزاء العالم” ، وهو ما دفعها للبحث عن مفهوم موسع للأمن في إطار براديم يكون أكثر
ملاءمة وتفسيرات أكثر مصداقية للمستجدات الحاصلة والمواكبة لمسائل الأمن.
وفي
هذا السياق قامت “هيلقا” بالبحث عن مفهوم الأمن السائد (المفهوم الموسع له)
محاولةً التأسيس لمفهوم متعد للتخصصات وللثقافات inter disciplinary and inter cultural أو من خلال المزاوجة بين حقلي الدراسات الأمنية والعلاقات الدولية، وهو ما
يعني عدم فصل المفهوم عن الجوانب النظرية له المتعلقة أساسا حول كيفية التشكل
وتاريخ الحرب والسلم والقيم والثقافات ومفاهيم الأمن الإقليمية والدولية والجماعية
والإرهاب والمشكلات الاقتصادية والبيئية والفساد وتجارة المخدرات وتأثير التطورات
التكنولوجية، وسوء الاستغلال للمعلومات في الصراعات والنزاعات الدولية، وسياسات
الدفاع الدولتية والإستراتيجيات النووية، وهي كلها أبعاد ترى الأستاذة “هيلقا”
أنها ضرورية في صياغة مفهوم صحي غير أعرج للأمن، ذلك أن إهمال أي من هذه الأبعاد
يعد إخلالاً بمفهوم الأمن ولا يرقى لان يكون مفهوماً دالاً عن المعنى المقصود
والمراد الإشارة له
وتلخيصا لما جاء سابقا على ضوء مراجعة الأستاذة
“هيلقا” لمفهوم الأمن، نرى بأن هذا الأخير لم ينسلخ من مفهومه التقليدي ذي البعد
العسكري القائم على الثنائية الأمنية /الاستراتيجية، وأبقاها في مضمار التصور
العقلاني للأمن وبهذا تتفق مع “وولت” حينما رأت أن توسعة مفهوم الأمن ستخل
بإبستمولوجية البرادايم الواقعي العقلاني ويجعله أكثر صعوبة خاصة وأنه أي هذا
التصور قد بدأ في الترنح عن الطرح الواقعي عبر إدخال عناصر بعيدة عما تأسس عليها
أول مرة.
*مراجعة مفهوم الأمن من خلال طرح الأستاذ
“إدوارد كولودزيجEdward
Kolodziej .
ينطلق الأستاذ “إدوارد” في تعريفه للأمن من
خلال توسعته للمفهوم ليتجاوز بكثير ما ذهبت إليه الأستاذة “هيلقا” وذلك انطلاقاً
من اعتبارين، الأول منهما: يتعلق بتوسعة المفهوم ليشمل الجوانب الاستراتيجية
والجوانب التسلحية للفاعلين غير الدولتيين مثل حركات التحرر ومختلف الجماعات التي
تمتهن العمل المسلح كجماعات الجريمة المنظمة، أما الثاني: فيطمح إلى توسعة المفهوم
ليشمل التهديدات المتصلة بالجوانب المعيشية للفرد مثل غياب التنمية الاقتصادية
والتنمية التقنية والعلمية، وعلى هذا الأساس يرى “كولودزيج” أن الدولة لم تعد
مهدّدة من مثيلاتها من الدول بل من الفاعلين والتهديدات الناشئة والكامنة داخل
الدولة نفسها كالحركات الانفصالية وصولاً إلى الإخفاق الاقتصادي الذي قد يصيب
الدولة فيجعلها فاشلة وغير قادرة على ضبط الأجندة الأمنية داخلياً وخارجياً.
إنه من الضروري التأكيد على أنّ الأستاذ
“كولودزيج” قد ربط بين أمن الدولة داخلياً
المرتبط بالرفاه الاقتصادي الذي يجب أن يتمتع به الفرد، الذي كلما كان
عالياً كلما كان الأمن مضموناً والأمر نفسه على المستوى الدولي بالنسبة للاقتصاد
العالمي في ظل تزايد الاعتماد المتبادل بحيث كلما زاد رفاه الدولة الاقتصادي كلما
قلت حاجتها لافتعال الحروب وما شابه، كما اعتبر التعقيدات والمتغيرات النفسية
والاجتماعية لا تقل أهمية عن المقدرة العسكرية في إحداث الضرر بالأمن سواء كان ذلك
داخلياً أو خارجياً. وهذا يقودنا إلى الجوانب النفسية لدى صناع القرار والساسة،
فالحالة النفسية السيكولوجية تلعب دوراً حاسماً في السياسة الدولية، إذ أن الحواضر
التاريخية في هذا الشأن حاضرة بقوة في المخيال الدولي وما مر به من حروب التي هددت
الأمن والاستقرار الدوليين.
وعلى الرغم من أن الأستاذ “كولودزيج” قد حاول
الربط بين المسائل الداخلية للدولة والمعضلة الأمنية فيها، إلاّ أنه من غير الممكن
التسليم بتعميم الفكرة، ذلك أن البعض من المسائل الخارجة عن حدود الدولة أدّت في كثير من الحالات إلى الإخلال بالأمن
مثل النزاعات بين الدول لما لها من تقويض وتعطيل الحصول عما يضمن توفير الحاجات
الأساسية للدولة ومواطنيها على حد سواء، وعليه وجب التخلص من مركزية الدولة في
تشخيص المسألة الأمنية.
* مركزية الدولة والأمن الموسع عند باري بوزان” Barry Buzan“
إن المتتبع لمسار إسهامات “باري بوزان” في
مراجعة وتطوير مفهوم الأمن، يلاحظ بأنه قد نحا منحا أكثر عمقاً من سابقيه، وفي نفس
الوقت حافظ على الاهتمامات والافتراضات الإبستمولوجية للواقعية، وقد تجلى ذلك
واضحاً في كتابه “الدول، الأفراد والخوف” “ People, States and Fear ” في سنة 1983، وفي مقاله المنشور سنة 1997 في
كتاب
“Security: A new framework Analysis “،
كما كان أول من طرح فكرة القطاعية في إعادة تعريف الأمن، نافياً بذلك فكرته
السابقة حول ضرورة تناول الدراسات الأمنية في إطار المقاربة العسكرية فقط حيث قال
في هذا الإطار: “من الضروري توسيع مفهوم الأمن ليتجاوز المسائل العسكرية، لأن
الدولة ليست الموضوع المرجعي الوحيد للأمن،
كما أنها ليست مصدر التهديد الوحيد لباقي الوحدات المرجعية وقيمها الأخرى”.
إن الأمن في نظر “بوزان” يحدد على أساس الكشف
عن المسائل المبيّنة للتهديدات الكامنة أو المحتملة التي تحتاج إلى أن تقاس بمعيارية
منطقية بعيدة عن التقديرات الذاتية في توصيفها، وعليه فإن الأمن من هذا المنطق
ينبغي أن يحدد على أساس موضوعي وبالتالي يتم التعامل معه وفقاً لهذه الموضوعية،
وليس وفقاً لتقديرات قد تصيب أوقد تخطئ، هنا بإمكاننا فتح قوس متعلق بما يقوم به
صناع القرار والساسة في تقدير المسألة الأمنية والتهديدات أساساً؛ ذلك أنهم يقدرون
التهديد وفقاً لميولات ذاتية بعيداً عن الواقع فيما أطلق عليه “الأمننة ” التي
سيأتي الحديث عنها لاحقاً.
يرى “بوزان” أنه يمكن تقديم تعريف مقبول وموثوق للأمن يكون أكثر
دلالية وأكاديمية، إذا تم مراعاة شروط ثلاثة وهي:
-السياق السياسي، Political Context– القطاعات، The Sectors-المسألة الخلافية حوله في العلاقات الدولية.
في السياق السياسي يعتبر “بوزان” ” الأمن” كـ
“السعي للتحرر من التهديد”، ويعتبر هذا التعريف الذي أورده عاماً وليس خاصاً ولا
نسبياً، ليشمل ضمنياً المسائل الاقتصادية والتنموية. فالأمن لدى “بوزان” هو أيضاً:
“قدرة الدول والمجتمعات على المحافظة على استقلالها وهويتها وسلامتها الوظيفية”.
تعريف بوزان للأمن بإلحاق المجتمعات بالدول يقيد مفهوم الأمن بالجماعة البشرية في
مقابل الأمن الشخصي، مما يعني أن الوحدة المرجعية والقياسية للأمن هي الدولة
وسيادتها الإقليمية كجماعة بشرية موحدة، وبهذا التقدير يصر “بوزان” على تصور أن
الدولة القومية وحدة مرجعية أساسية للأمن وتكون هي الهدف وفي ذات الوقت الضامن
الأساسي له، وعليه فالأمن عنده هو حزمة
واحدة متمركزة في الدولة وليس مجزأ ومشتت بين وحدات مرجعية مختلفة، وهي النقطة
المفصلية التي على أساسها أورد المفهوم مطلقاً وليس نسبياً طالما أن الدائرة
الموسعة للأمن هي الجماعة البشرية بغض النظر عن الحيز أو التمايزات الفاصلة بين
المجموعات المنضوية داخل الدائرة الكبرى الموسعة للأمن.
بينما في مقاله “أنماط جديدة للأمن العالمي في
القرن الحادي والعشرون” تحدث “بوزان” عن الأبعاد السياسية والعسكرية والاقتصادية
والمجتمعية والبيئية التي رأى أنها تشكل شبكة متسلسلة للخريطة المفاهيمية للأمن،
لما لها من قدرة التأثير على بعضها البعض، هذه المنهجية مكّنت من بلورة مفهوم أكثر
شمولاً للأمن، كما مكّنت من اكتساب أفضل كيفية للتعامل مع ما يسميه بوزان “مشكلة
الأمن القومي” ، الذي يمكن أن يُفهم من خلال ربطه مع الأمن الفردي الذي يرتكز
بالأساس على “الحياة الصحية وحالة الحرية والثروة” المتكاملة فيما بينها غير أنه لا
يمكن سحب مفهوم الأمن الفردي على مستوى الأمن القومي ونتوقع أن نحصل على المفهوم
ذاته، وبالتالي لا يتأتى أمن الدولة إلاّ من خلال فهم أمن كيانات أكبر وأكثر
تعقيداً بعد فحص الروابط بينه وبين الأمن الفردي الذي يعد مصدرا متميزاً لتبصر
إشكالية الأمن القومي وكل هذا داخل الدائرة الموسع للمفهوم
ويقدم
الأستاذ بوزان خمسة أبعاد أو قطاعات أساسية للأمن تعمل في حركية متناسقة مع بعضها
استقاها من مصادر التهديدات في حد ذاتها؛ فعلى مستوى القطاع العسكري يحاجج “بوزان”
بأن التهديدات تكون أكثر حدّة لأنها تشكل التهديد الأكبر للدولة وتؤثر في
مكوناتها، وهو ما يطرح التساؤل حول مدى قدرة الدولة على توفير الأمن لمواطنيها عبر
التفاعل على مستويين إثنين، القدرات الهجومية والدفاعية المسلحة للدولة، وتصورات
الدول لنوايا بعضهم البعض المتعلقة بالمسائل الأمنية ،أما عن القطاع السياسي
فالتهديدات تكون أكثر تعقيداً إذا ما قورنت بالتهديدات العسكرية؛ حيث يكمن مصدر
التهديد فيها من منطلق المنافسة بين الإيديولوجيات الموجودة إما داخل الدولة أو
بين الوحدات الدولية وباقي الفواعل الأخرى، غير أنه من الضروري التمييز بين
التهديدات السياسية من الشاكلة السابقة وتلك التي تنشأ هيكلياً من تأثير الفواعل
الخارجية على شرعية الدولة وسيادتها كما في حالة الدول القائمة على الأساس
الأيديولوجي غير المعترف به دولياً.
أما
عن مستوى القطاع المجتمعي للأمن، حيث الوحدات المرجعية للأمن هي المجتمع والهوية
والأقليات (القبائل والعشيرة والأمة والحضارة والأديان والعرق)، فإن التهديدات لا
تستهدف هذه الوحدات في تواجدها المادي أو
استقلالها الاقتصادي والسياسي وإنما في تواجدها الهوياتي، وبالتالي مسألة التهديد
تبنى على أساس التمييز بين “نحن” كجماعة و”الآخر” كجماعة مختلفةوبالتالي الخوف هنا
يكون من المنافسة الأفقية حيث التأثير الثقافي واللغوي الذي تسببه الثقافة
المجاورة وتفوقها على ثقافة السكان الأصليين، إضافة إلى الخوف من المنافسة
العمودية التي تمارسها الهوية الناتجة عن مشاريع التكامل والاندماج كما هو حاصل في
الإتحاد الأوروبي، غير أن “بوزان” يرى أنّ الهوية لن تكون محل تهديد أو منافسة
–عمودية أو أفقية- إذا كانت قادرة على تصميم وبناء وصيانة هويتها بتبنيها لمقاربة
“منفتحة”، Open-minded” أو “مغلقة” ،“Close-minded”
التفكير.
في القطاع البيئي يرى الأستاذ “بوزان” في هذا
الصدد أن التفكير في التهديدات الإيكولوجية يكون بالتفكير فيما أحدثه الإنسان فوق
هذا الكوكب والذي أثر سلباً على الكوكب ومن يعيشون فوقه مثل الاحتباس الحراري
والتلوث وثقب طبقة الأوزون، حيث يمكننا أن نرى بوضوح الانعكاسات الخطيرة والأضرار
المحدقة بالبيئة جراء ذلك الأمر الذي سيحتم على الأسرة الدولية لتضطلع بالمبادرات
الممكنة لمعالجتها والتي سوف يكون لدور الأمن الاقتصادي والأمن السياسي أهمية قصوى
فيه لإيجاد الحلول على اعتبار أنها تمس على نطاق واسع جميع مكونات المجموعة
الدولية ،والوحدة المرجعية في الأمن الإيكولوجي بحسب “بوزان” لا تتجلى بوضوح كما
هي في القطاعات السابقة وإنما هي مركبة من وحدتين أولهما البيئة في حد ذاتها
(الكوكب والمحيط الحيوي له)، أما الثانية فهي كل الذين يشكلون جزء من العلاقة
البيئية ويكونون في تماس مباشر مع ما يمس هذه البيئة من تهديد أو خطر.
بينما البعد الاقتصادي للأمن، يقدر “بوزان” أن
له وحدات مرجعية أكثر تعدّداً على خلاف باقي القطاعات السابقة الذكر، تبدأ من
الفرد وطبقات المجتمع والدول وتنتهي إلى النظام المركب والشامل للأسواق بكل قواعده
ومعاييره ومبادئه، وأما تهديداته فهي كل ما ينتج الموت أو تلك التي “تمنع الحصول
على الحاجات الأساسية لبقاء الإنسان حياً مثل المياه والغذاء والملبس
والمأوى….إلخ، حيث يعتبر الفرد في الدرجة الأولى من مرجعيات الأمن الاقتصادي
فقضايا المعيشة والبطالة أو تراجع القدرة على الحصول على الموارد الحيوية كلها
تهدد الفرد أكثر مما تهدد الدولة في كيانها والمجتمع في هويته، إذ يمكننا
الاستدلال على وجودها من خلال آثار عولمة الإنتاج والأسواق التي أدت بدورها إلى
إحداث عواقب اقتصادية وسياسية وعسكرية أدت إلى تعريض الحاجيات الحيوية للأفراد
للخطر أكثر فأكثر، إلا أنها غير واضحة تماماً كباقي التهديدات الأخرى على اعتبار
أنها متداخلة ومتشابكة، ومع هذا يقر بأن أكبر تهديد هي العولمة في حد ذاتها لما
توفره من آثار جانبية تمس الأفراد والدول والجماعات والنظم الدولية.
الأمن الإنساني: الإنسان أولاً، Human security
أدت نهاية الحرب الباردة وتغير طبيعة النظام
الدولي وفواعله إلى إعادة التفكير في مفهوم الأمن وتجاوز المسلمات التي طبعته خلال
الحرب الباردة وضرورة أن يتحول الاهتمام الدولي مستقبلاً إلى التركيز على الأمن
الإنساني بدلاً من الأمن النووي، خاصة وأنه – الأمن الإنساني – المصدر الأول للقلق
الدولي لصلته المباشرة بالفرد البشري، خاصة وأن التهديدات هي مشتركة بين الجميع
وأنه سهل التحقيق وذو مجالات واضحة هي الأمن الاقتصادي والغذائي والصحي والبيئي
والشخصي والمجتمعي والأمن السياسي، أما عن تهديداته فهي متنوعة ومتعددة هي النمو
السكاني المفرط والتفاوت في الفرص الاقتصادية وضغوطات الهجرة والتدهور البيئي والاتجار
بالمخدرات والبشر والإرهاب الدولي
وقد عمل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على
المفهوم في تقريره لسنة 1997 بإدخاله عناصر جديدة له مثل الدخل المحدود والفقر
ومتوسط العمر المتوقع وزيادة حجم الأمية بين البشر
تجدر الإشارة أن أول استخدام لهذا المفهوم كان
في كل من كندا واليابان؛ وهنا برز لدينا تعرفين جديدين حيث ركز الطرح الكندي على
بناء إجراءات تكون قادرة على حماية الفرد البشري في حالات الحروب والصراعات كإنشاء
محاكم دولية لمحاسبة المتسببين في جرائم الحرب والتأسيس لما عرف فيما بعد بالعدالة
الانتقالية، وفرض حظر على الألغام الأرضية المضادة للأشخاص، أما الطرح الياباني
فقد ركز على ضرورة تجاوز التفكير القائل بأن الأمن الإنساني هو التحول من أمن
الدولة إلى أمن الفرد ما يعني ضرورة تلبية الحاجيات اليومية الأساسية للفرد حتى
يتحقق الأمن الإنساني ولا يكون ذلك في نفس الوقت مدعاة إلى تجاوز أمن الدولة
تأسيساً
على ما سبق نجد أمامنا ثلاثة مفاهيم أساسية للأمن الإنساني؛ الأول يركز على
الاحتياجات الضرورية للإنسان في مسار التنمية المستدامة، بينما يؤكد المفهوم الثاني على الإجراءات التي من شأنها تحييد
الفرد البشري أثناء الحروب والصراعات، في حين نجد المفهوم الثالث يركز على الحقوق بالمعنى المطلق سواء كان ذلك أثناء
الحرب أو أثناء السلم
من الناحية النظرية، كانت “الواقعية الأكثر
أهمية” في تفسير المعضلة الأمنية، حيث أنتجت مفهوماً أكثر ارتباطا بالدولة كوحدة
مرجعية أساسية، على الرغم من أن أفرادها لا يشعرون بالأمن، حيث تكون الدولة آمنة
بناء على معطيات ومتطلبات الحقبة الزمنية في ذلك الوقت- بينما يكون أفرادها أقل
أمناً. هذا الوضع دفع إلى إعادة مراجعة هذا المفهوم مع تطور مجريات السياسة
الدولية، خاصة مع تصاعد فكرة التعاون في العلاقات الدولية، والحروب والنزاعات
الدولية، وظهور تهديدات جديدة الأمر الذي قاد إلى إنتاج مفاهيم جديدة مثل التحول
من مفهوم أمن الدولة إلى مفهوم الأمن الإنساني.
المطلب الثالث: الأمننة كمفهوم أكثر اتساعا
للأمن وقضاياه: شخصنة المعضلة الأمنية
يجمع العديد من متتبعي الدراسات الأمنية على أن
مدرسة كوبنهاجن لبحوث السلام والأمن كانت أول من تحدث عن “الأمننة” كمفهوم ومصطلح
جديد في الدراسات الأمنية، مع كتابات الأستاذ “أوول وايفر” “Ole Waever” حول الأمننة واللاأمننة Securitazion and desecuritization“ التي حث فيها على توسيع مجال الدراسات الأمنية،
وتناول مفهوم الأمن بناء على المخاطر التي تتحول إلى مشكلات أمنية في أذهان صناع
السياسات، وهي العملية التي أطلق عليها الأستاذ “وايفر” “الأمننة” “Securitization “ لتكون بذلك الأرضية المفاهيمية لدورة جديدة
المنظور في الدراسات الأمنية تقوم على فهم دقيق لطبيعة التهديدات والوحدات
المرجعية والأسباب الكامنة وراء عملية الأمننة وظروفها.
إنّ مفهوم الأمننة كما أتى به “وايفر” يكمن في
“تحول قضية ما إلى مشكلة أمنية عندما تعلن النخب ذلك” حيث تلاقى هذه المشكلة
قبولاً واسعاً من قبل الشعوب، وذلك عبر عملية خطابية ترويجية بالأساس تكون الوحدة
المرجعية فيها “ذاتية” أو “المرجعية الذاتية” self-seferential نابعة من تصور شخصي تقديري لقضية معينة.
الخاتمة:
من الضروري التنبيه بعد هذه المحاورة النظرية
أن الأمر لم يكن متعلقاً بالحاجة إلى ابتكار التهديدات أو إلغاء المفاهيم بقدر ما
كان مرتبطاً بالحاجة إلى “تطوير المفاهيم” الموجودة وإضفاء صيغة جديدة عليها
للتعبير عن قضية جديدة قصد تحقيق فهم أعمق وأفضل وأدق وأكثر معيارية لعالم ما بعد
الحداثة، وهو ما حدث لمفهوم الأمن إذ تحول من مفهوم “أمن الدولة” إلى مفهوم “الأمن
الإنساني” إلى الأمننة عبر خطاب سياسي نخبوي.
تأسيساً على ما سبق، يمكن القول بأن النقاشات
التقليدية وغير التقليدية لمفهوم الأمن -بتجاوز الاصطفاف الذي كان بين المنظرين-
شكلت أسساً منطقية ومعرفية ومنهجية وأنطولوجية ومعيارية وإبستمولوجية في بناء حقل
الدراسات الأمنية، وبالتالي أصبح المفهوم بالمعنى التقليدي له غير كاف لبناء
الحقل، كما أن أخذ المفهوم بالمعنى الموسع له لا يعدّ إيجابياً بالمطلق في تفسير
المعضلة الأمنية في السياسة العالمية، وعليه فالمفهومان لم يكونا إقصائيين لبعضهما
البعض بل جاء المفهوم الأول ليكمل المفهوم الثاني، وأن الثاني حافظ على نواة
الأول، ولم يكونا نقيضا بعضهما بل كانا وثيقي الصلة بمفردات وفواعل العلاقات
الدولية (الدولة والفرد الإنساني والنظام الدولي) والتي تعتبر مواضيع العلاقات
الدولية الدسمة النقاش في هذا الحقل من جهة والمستويات المشتركة في الدراسات
الأمنية من جهة أخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء
الثاني
الكاتب
: د. عبد الرفيق كشوط (أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، كلية الحقوق
والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، جامعة محمد الصديق بن يحي، الجزائر)
تاريخ
النشر : فبراير 25/2023
الموقع
: مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية